استمع إلى الملخص
- الفجوة المتسعة بين الأغنياء والفقراء تقود إلى انقسام اجتماعي واقتصادي، مما يسهل انضمام الشباب لشبكات الجريمة بحثًا عن الانتماء.
- تفشل الدولة في القضاء على التمييز والفوارق، مما يعمق مشكلة الجريمة بين المراهقين المهاجرين، مع تأكيد على أهمية تحسين الاندماج ودعم الشباب المعرضين للجريمة.
تتسم الأحياء الشرقية للعاصمة النرويجية بازدياد نسبة الجريمة بين المراهقين من خلفيات عرقية ومهاجرة، مقارنة بالجانب الغربي الذي يضم الأسر الأغنى غير الوافدة، لتستمر دائرة الفقر والعنف في النمو بين الفئات ذاتها.
- تورط المراهق النرويجي من أصل سوري رامي (16 عاماً وتم إخفاء هويته للحفاظ على خصوصيته)، مع عصابات توزيع المخدرات، المنتشرة في حي ستوفنر شرقي أوسلو الذي يتسم بانتشار العنف والجريمة، بسبب الظروف الاقتصادية السيئة التي عانى منها ووالدته، كما يروي الباحث الاجتماعي، عثمان مشتاق، الذي تابع حالة رامي أثناء عمله السابق على ملف الاندماج والخدمات الاجتماعية التابعة للبلدية في مجلس مدينة أوسلو.
ومن أكثر العوامل التي حفزت انخراط رامي في الجريمة شعوره بأن أقرانه نرويجيي الأصل ينظرون إليه بازدراء بسبب مكان إقامته، ما أدى إلى مضاعفة شعوره باليأس والإحباط، والانغماس في دائرة أصدقاء يتسم سلوكهم بالعنف والإجرام، حتى إنه تعرض إلى طعنة على يد أحدهم لدى وقوع جدال بينهما في الحيّ الممتلئ بذوي الأصول المهاجرة، والذين تنتشر بينهم جملة من الظروف المعززة لانخراطهم في الجريمة أكثر من نظرائهم نرويجيي الأصل، وهي ظاهرة تؤكدها نتائج تقرير صادر عن شرطة العاصمة في 15 فبراير/ شباط 2022، بعنوان "سياق المخاطر والحياة للشباب المجرمين في أوسلو"، وشمل دراسة وتحليل أسباب انخراط 341 شخصاً من أصحاب السوابق الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً في العنف والجريمة، وخلُص إلى أن نسبة انتشار الجريمة بين الفئة التي تنتمي إلى خلفيات مهاجرة بلغت 77%، مقابل 23% بين المراهقين نرويجيي الأصل.
لماذا يتعزّز نمو الجريمة بين المراهقين المهاجرين؟
"ثمة عوامل مشتركة مؤثرة في حياة المراهقين الناشطين جرمياً، أوصلتهم إلى هذا الحال، أبرزها الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي تعيشها الأسر المهاجرة، والتي تسكن غالباٍ في المناطق الفقيرة، على سبيل المثال، يتركزون في الأحياء الشرقية من أوسلو، مثل جرورود وستوفنر وسوندري نوردستراند وألنا، ويشكل المهاجرون أكثر من 50% من سكانها، وتعتمد أكثر من خُمس الأسر فيها على الإعانات الاجتماعية، في مقابل أسرة واحدة فقط من كل عشر عائلات غرب العاصمة"، بحسب ما تكشفه بيانات تقرير الشرطة الذي لفت إلى أن 53% من المجرمين الشباب النشطين و57% من أصحاب السوابق يعيشون في المناطق الشرقية.
تتزايد الجرائم في الأحياء التي يتركز فيها المهاجرون
وتعد الاختلافات في الدخل والمستوى المعيشي واحدة من بين مؤشرات عدة تقيس مستوى الاقتصاد الاجتماعي (سوسيواقتصاد - يدرس أثر الظروف الاجتماعية على النشاط الاقتصادي) والذي يؤثر في نشأة الأطفال والمراهقين، نتيجة الفرص الموزعة بشكل غير متساوٍ، ما يشكّل وقوداً يغذي إحباط الشباب في الأحياء المهمشة، بحسب إفادة الباحث في معهد الرعاية الاجتماعية في أوسلو Nova (حكومي)، كريستر هيغن.
ويمكن تقييم الاقتصاد الاجتماعي أيضاً من خلال مدى الاندماج في الحياة العملية، ومستوى التعليم، والخلفية التي ينتمي لها الأفراد، وهو ما يتضح من نتائج تقرير الشرطة الذي توصل إلى أن ثلاثة أرباع المجرمين النشطين الذين شملتهم العينة من أصول أفريقية وآسيوية، وبالتالي يصنف مكان الإقامة باعتباره سبباً قوياً لوقوع الجريمة، إذ يؤثر التوزيع الاجتماعي والاقتصادي على حياة هؤلاء المراهقين من خلال الأهداف الواقعية التي يمكنهم وضعها لأنفسهم والخيارات التي يستطيعون اتخاذها لتحقيق أهدافهم، وفق ما توصل إليه الباحث مشتاق، والذي يؤكد عبر الحالات التي رصدها وجود ما سماه بـ"الوصم بسبب الإقامة في أحياء بعينها يتركز فيها المهاجرون، والذي يشكل عامل تطور للجريمة بين الصغار، كما حدث مع رامي".
ويتضح أثر مكان الإقامة على سلوكيات المراهق وميوله للجريمة عبر حالة جان (14 عاماً)، وهو من أصل تايلاندي، وتأثر سلوكه بممارسات أصدقائه الذين اعتاد أن يقضي معهم وقته بعد منتصف الليل في حي ستوفنر حيث يقطن مع أمه واثنين من إخوته، وتورط في السرقة وأعمال عنف وتخريب للممتلكات، بحسب إفادة الباحث بورجي تومتر، الذي تابع حالة جان أثناء عمله رئيساً لقسم الإشراف على حماية الطفل والخدمات الاجتماعية في بلدية باروم غربي أوسلو، قائلاً لـ"العربي الجديد": "الهمّ الأكبر كان إبعاد جان عن أصدقائه الذين يُشركونه بأعمال غير قانونية وعنيفة، وغالبيتهم للأسف من أصول مهاجرة"، وبالفعل تمكن من بدء مرحلة جديدة من حياته تتسم بضبط سلوكياته والابتعاد عن التورط في الجرائم، بعد إخضاعه لمتابعة متخصصة وتقويم سلوكي وتدخل من مدرسته هوفميستر الإعدادية وسط العاصمة النرويجية، والتي استعانت بهيئة حماية الطفل النرويجية Barnevern (حكومية تعنى بمساعدة الأطفال وحمايتهم).
فشل الدولة في القضاء على التمييز والفوارق
يعكس اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في النرويج مدى تراجع عناصر المساواة الاجتماعية والاقتصادية بما لها من تبعات مؤثرة على زيادة نسبة الإجرام بين المراهقين، كما ترى مديرة المركز الثقافي الخاص بالمراهقين جنوب النرويج (حكومي) ماري سكي بارثولدسن، موضحة أن غياب المساواة يجعل المجتمع أكثر انقساماً، إذ ينجذب الأغنياء نحو المناطق السكنية الرغيدة، في حين يضطر الأقل ثراء للاكتفاء بالشقق الضيقة في الأجزاء الأقل رفاهية من المدينة، ما يفسر مشاهدة أطفال وشبان يقضون أوقات فراغهم في الشوارع بسبب طبيعة سكنهم في شقق مكتظة، ويسهل انضمامهم إلى دائرة أصدقاء السوء والشبكات الجرمية.
6 من كل 10 أطفال فقراء لديهم خلفية مهاجرة
ويقرّ الباحث بمجال عدم المساواة في معهد أبحاث الرعاية الاجتماعية، جورن ليوغرين، بعمق الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، والتي تتجلّى أوضح مظاهرها في العاصمة، واصفاً إياها بـ"مدينة الاختلافات"، التي تعكس بكل وضوح الانقسامات الاجتماعية خلف خطوط التقسيم الجغرافية، وعلى سبيل المثال، كان 90 ألف شخص في أوسلو يعيشون على دخل منخفض حتى نهاية عام 2021 وهؤلاء تعيش الغالبية العظمى منهم في الأحياء الشرقية.
الحقائق السابقة، تدفع مشتاق إلى القول: "تفاقمت آثار تفاوت الدخل في النرويج"، ويستند في ذلك إلى بيانات هيئة الإحصاء النرويجية والتي تظهر أن ستة من كل عشرة أطفال فقراء لديهم خلفية مهاجرة. لكن هل فقر المهاجرين وحده سبب للجريمة؟ يجيب مشتاق أن جميع الدراسات التي يجرونها على حالات الأطفال والمراهقين المتورطين في الجريمة توصلت إلى أن تحديات الظروف المعيشية تؤدي دوراً أكبر بكثير من الخلفية العرقية ويصف التركيز على العرق بالانحراف إلى مسارات جانبية، ويجمل فكرته: "إن ولدت في أسرة فقيرة وتسكن حياً فقيراً لن تصبح بالضرورة أكثر إجراماً، لكنك ستواجه تحديات معيشية أكبر تجعلك أكثر عرضة للخطر وتحتاج إلى مساعدة".
آثار ضعف الاندماج
تعتبر كبيرة المستشارين في هيئة شباب الصليب الأحمر Røde Kors Ungdom، (تتبع الصليب الأحمر النرويجي وتختص بتحديد مشكلات الشباب وتخفيف معاناتهم)، ماري أولسي غراد، الفقر أحد محفزات الجريمة الناتجة عن صعوبات اندماج المهاجرين في البلاد، وتؤكد لـ"العربي الجديد" أهمية تضمين التحديات المتعلقة بصعوبة اندماج المراهقين مع أقرانهم في استراتيجيات منع الجريمة التي توضع بالتنسيق مع مختلف الدوائر الحكومية مثل الشرطة والبلديات والمراكز الثقافية التابعة لكل بلدية، من أجل ضمان تقاربهم مع أقرانهم النرويجيين عبر تنظيم أنشطة محددة لإزالة أي شعور بالفرق.
ويتفق مشتاق مع غراد ويضرب مثالاً بأثر إدماج الطفل مع محيطه وأقرانه في إنقاذه من الجريمة، عبر تجربة الطفل العراقي إبراهيم الذي قدم إلى النرويج في عمر 11 عاماً مع والديه المهاجرين، وظل يكافح لتكوين صداقات منذ أن بدأ الدراسة، لكن النظر إليه كمهاجر ينحدر من أسرة وضعها الاقتصادي متدنٍ مقارنة بأقرانه حال دون ذلك، ليلازمه الشعور بالإهمال والوحدة، وهما عاملان إضافة إلى فقره، سهّلا اندماجه في بيئة إجرامية كما يصفها مشتاق، ليتورط الفتى في جرائم متكررة بما في ذلك أعمال العنف والسرقة، ولحسن حظه أنه حظي بمساعدة موظف رعاية اجتماعية مختص في المدرسة وكان يتابعه عن كثب حتى عاد إلى رشده.
والأخطر من وجهة نظر مشتاق، فشل خطط إدماج الآباء المهاجرين، وهو ما يتجلى في وضع العقبات أمام انخراطهم في سوق العمل، مثل طول فترة إجراءات معادلة الشهادات الأجنبية التي قد تستغرق عامين، وتعيق حصول خريجي الجامعات على الاعتراف اللازم لممارسة عملهم، وكذلك لا يمكن لأصحاب المهن مزاولة عملهم دون الحصول على شهادة في التعليم المهني، ما يعني بدئهم الدراسة من مرحلة الثانوية العامة وانتظار أربعة أعوام حتى يتمكنوا من العمل، إضافة إلى عامين لتعلم اللغة، وبحسب الحالات التي عمل مشتاق معها، فإن أسر المراهقين مرتكبي الجرائم عانت خيبات الأمل كلما حاولت الاندماج في العمل والمجتمع بسبب تلك التعقيدات، ويضطر أفرادها للعمل في مهن بأجور متدنية.
"وكل ما سبق ينعكس على أسرهم ومستوى تعليم أبنائهم الذي يظلّ منخفضاً ولا يرقى إلى المستوى الجامعي"، بحسب ما جاء في تقرير صادر عن معهد أبحاث الرعاية الاجتماعية بأوسلو بعنوان "الشباب في أوسلو 2023"، مؤكداً أن واحداً من كل ثلاثة أشخاص من قاطني الجزء الشرقي في المدينة لديه مستوى تعليمي منخفض.
الوحدة والعزلة
"ترى الشرطة بنفسها مظاهر الفقر والعزلة في منازل هؤلاء الشباب عندما تداهم منازلهم للتفتيش، وتدرك أنهم ليسوا على ما يرام، ومع ذلك لم يتم عمل الكثير لهم"، يقول الباحث مشتاق، ويُحذّر في حديثه لـ"العربي الجديد" من خطر إهمال هذه الفئة والتقصير في دمجها بالمجتمع، خاصة أن الشباب لديهم دوافع داخلية لسلوك طريق الجريمة "كونهم يريدون المال والمكانة والانتماء والإثارة"، ولتحقيق ذلك قد يلجأون إلى التصرف بعدوانية وتهديد الآخرين، أو يسعون إلى نيل الأموال بسرعة حتى يبدوا ناجحين في مجتمعهم، وإذا ما ترك هؤلاء الشباب دون متابعة سينشؤون مجتمعهم المنفصل الخاضع لقوانينهم، وهو ما يقع فعلاً، إذ يفتقر العديد من المهاجرين إلى المشاركة في وحدة اجتماعية، سواء كانت العلاقة مع مجموعة من الأصدقاء، أو جمعية تطوعية تضمهم، يمكنها توفير الهوية والتماسك والشعور بـ "نحن"، بحسب بارثولدسن، مؤكدة أن واحداً من كل ثلاثة مهاجرين من آسيا وأفريقيا يشعرون بأنهم مستبعدون من المجتمع، وهو ما يعادل ضعفين إلى ثلاثة أضعاف ما يشعر به الأشخاص الذين ليس لديهم خلفية مهاجرة، ما يعزز انحراف سلوكهم. ويتطابق ذلك مع نتائج تقرير سياق المخاطر والحياة للشباب المجرمين، والذي تكشف نتائجه أن العديد من المشمولين في العينة كان يلازمهم الشعور بالإقصاء من المجتمع والوحدة داخل وخارج الأسرة، بالإضافة إلى المشكلات الأخرى من تراجع المستوى التعليمي، وزيادة معدلات البطالة، وضيق الموارد المالية.
عقوبات المراهقين المتورطين في الجريمة
يقضي المحكومون بالسجن، ممن تراوح أعمارهم بين 15 و18 عاماً، جراء ارتكاب جرائم خطيرة فترات عقوبتهم في وحدات الشباب، منفصلين عن المجرمين البالغين وتخصص لهم متابعة متعددة التخصصات، عملاً بقانون عملية العقاب رقم 294، وفق تقرير بعنوان خصائص الأطفال والشباب المتورطين في الجرائم وآثار العقوبة، الصادر في إبريل/نيسان 2022 عن مؤسسة Oslo Economics المختصة في أبحاث القضايا الاجتماعية وتقدم المشورة للسلطات الحكومية والمنظمات الأهلية.
ويختلف العقاب الذي ينتظر المراهقين دون سن 18 باختلاف نوع الجريمة، إذ توجد إجراءات إصلاحية لمتابعة الأحداث، سعياً لمنع تورطهم في المزيد من الجرائم، بينما يخضعون لعقوبة أكثر صرامة كالسجن إذا ما أقدموا على ارتكاب جرائم متكررة أو خطيرة، وتتراوح فترة التنفيذ بين ستة أشهر وثلاثة أعوام، بحسب تقرير بعنوان: "بين المساعدة والعقاب"، الصادر في عام 2019 عن مركز الأبحاث النرويجي (حكومي).
مكافحة الظاهرة
تتحمل مؤسسات حكومية كالبلديات والمنظمات الإنسانية والمدارس والمراكز الثقافية مسؤولية إدماج المراهقين المعرضين لخطر ارتكاب الجريمة أو ارتكبوها بالفعل، وفقاً لبارثولدسن، ويتولّى تنظيم الأمر جهات مثل المنظمة التي تعمل بها والتي تعتمد على خلق علاقة ثقة بين المراهقين والعاملين المختصين في المركز، مشيرة إلى وجود تنسيق بين هذه الجهات والشرطة ومراكز رعاية الأطفال حول بعض المراهقين الذين يحتاجون إلى متابعة أكثر من غيرهم نظراً لسلوكهم أو لانخراطهم في نشاطات مشبوهة قد تجرهم للجريمة، فيما يرى عثمان مشتاق أن الحل لاحتواء الجريمة يبدأ من الأسرة، إذ يجب على أولياء الأمور متابعة أبنائهم، مؤكداً أن العديد من الشباب الذين تورطوا في جرائم وتعامل معهم نشأوا مع آباء لا يراقبون أطفالهم جيداً، قائلاً: "القطاع العام يستطيع أن يفعل الكثير، لكن ليس بدون الدور الأبوي".
من أجل هذا ترنو كبيرة المستشارين غراد إلى خطط احتواء للمراهقين من مرتكبي الجرائم أو المعرضين لخطر ارتكابها، خاصة من يعانون العزلة والإقصاء، مثل جان وإبراهيم، اللذين حظيا بمساعدة الجهات المتخصصة لإبعادهما عن براثن الإجرام، بينما تفوت فرصة إنقاذ الآلاف، "ما يؤكد على أهمية تهيئة ظروف نشأتهم بشكل سليم"، كما يختتم مشتاق.