استمع إلى الملخص
- الاعتداءات على الفلسطينيين تكبد الاقتصاد خسائر إنتاجية تقدر بـ 2.3 مليار دولار في أشهر قليلة، مع تسجيل 1700 حالة اعتداء حتى مطلع مايو، مما يعكس استراتيجية ممنهجة لإفقار الفلسطينيين.
- المعاناة تتجاوز الخسائر المادية إلى الخوف المستمر من فقدان مصادر الرزق، مع تحديات مالية كبيرة تواجه الحكومة الفلسطينية في تقديم الدعم الكافي للضحايا، مما يتركهم يواجهون تبعات الأزمة بمفردهم.
يقتل المستوطنون بمعاونة الجيش الإسرائيلي آمال الفلسطينيين في حياة كريمة، إذ ينهبون مصادر دخلهم ومشاريع عمرهم، وما لا يمكنهم الاستيلاء عليه يدمرونه، لتنتقل عائلات بأكملها من الستر إلى الفقر في دقائق معدودة.
- يقبع التاجر الفلسطيني زياد عودة، مالك مخبز وبقالة إيفل الواقعة في بلدة حوارة جنوبي مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية، في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد الحكم عليه بالحبس ثمانية أشهر ودفع غرامة مالية قدرها 5 آلاف شيكل (1367 دولارا أميركيا)، كما خسر محله التجاري الذي دمّرته الجرافات الإسرائيلية، بعدما صدر قرار بوقفه عن العمل لمدة خمسة أشهر، إثر حملة تحريض قادها مستوطنون يطلقون على أنفسهم "صيادو النازيين"، (يحرضون على قتل الفلسطينيين واستهداف ممتلكاتهم).
وانطلقت الحملة عقب مشاركة عودة منشور دعاية لمخبزه يحمل تصميما فيه صورة لسيدة من بين المحتجزات لدى المقاومة في غزة، كما يقول والده طارق، وقبل الحكم عليه هاجم المستوطنون بلدة حوارة التي يخترقها طريق استيطاني جنوب مدينة نابلس، وحطموا المخبز ومعدّاته، لتخسر عائلة عودة مصدر دخلها الوحيد وكذا خمس عشرة عائلة أخرى، لكن عودة لا يعتقد أن ما جرى بسبب منشور الدعاية، بل لأنهم رفضوا التعامل مع المستوطنين وفي كل مرة حاولوا الشراء من المخبز طردوهم من المكان.
و"يعد هذا المشهد المتكرر جزءا من نهج المستوطنين في استهداف الفلسطينيين وأرزاقهم ومشاريعهم وممتلكاتهم، والذي لم يتوقف قبل السابع من أكتوبر، لكنه سجل أرقاما غير مسبوقة بعده، ليبلغ عدد الاعتداءات حتى مطلع مايو/أيار الماضي 1700 حالة، بعدما هيأت دولة الاحتلال خلال تلك الفترة البيئة ليس من أجل تنفيذ اعتداءات فقط بل للمساهمة في مخططات على مستوى الدولة ترمي إلى إفقار الفلسطينيين وضرب اقتصادهم"، كما يؤكد أمير داود مدير عام النشر والتوثيق في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان (حكومية).
خسائر إنتاجية باهظة
تكبد الاقتصاد الفلسطيني خسائر إنتاجية تقدر قيمتها بـ 2.3 مليار دولار أميركي خلال أول أربعة أشهر من العدوان على غزة، وفق تقدير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، وتفسر حالة عائلة عودة تفاصيل الرقم السابق، إذ خسرت في يوم واحد 1.5 مليون شيكل (403 آلاف دولار) قيمة بضاعة، ولم تحتسب العائلة خسائر التوقف عن العمل والإغلاق طيلة الشهور السابقة، كما يقول طارق عودة والذي يروي أن المستوطنين بعدما انتهوا من جريمتهم اتصل جيش الاحتلال بنجله زياد وشريكه، ليسلما نفسيهما وهددوهما بتدمير منزليهما في حال عدم التجاوب.
التكامل السابق بين جرائم المستوطنين وأعمال جيش الاحتلال، تؤكده بيانات معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس - غير حكومي)، إذ وثق 1156 اعتداء نفذها مستوطنون منذ بداية عام 2023 وحتى السابع من أكتوبر المنصرم، وعقب اندلاع الحرب على غزة ارتفعت وتيرة الهجمات بشكل ملموس، لتصل إلى 546 اعتداء حتى نهاية يناير/ كانون الثاني 2024، وطاولت كافة مناحي الحياة في الضفة الغربية، وبلغت نسبة الهجمات التي استهدفت ممتلكات خاصة بما فيها المشاريع الاقتصادية 30% من إجمالي العدد، والمواطنين بنسبة 29%، والمزارع 20%، والاعتداءات الأخرى نسبتها 21%.
وعلى مستوى المحافظات الشمالية تحمّلت نابلس الحصة الكبرى من الخسائر الاقتصادية الناجمة عن اعتداءات المستوطنين، إذ شهدت 158 اعتداء من أصل 546 حالة، خاصة في بلدة حوارة التي تضررت بشكل كبير وخسرت نحو 24 مليون دولار نتيجة إغلاق المحال التجارية فيها منذ بداية الحرب على غزة، كما انخفضت مبيعات السلع نحو 60%، وجرى ضرب البنية التحتية فيها، بحسب توضيح الباحث الاقتصادي في معهد ماس، مسيف جميل.
وفي جنوب الضفة الغربية، شهدت مدينة الخليل 141 اعتداء لتسجل خسائر بقيمة 15 مليون دولار يوميا، حسب تقديرات معهد ماس، ويصل إجمالي الخسائر الاقتصادية في الضفة الغربية إلى 45 مليون دولار يوميا؛ بفعل اعتداءات المستوطنين وجيش الاحتلال، وبالتالي تراجع الناتج المحلي بنسبة 30% بعد العدوان على غزة، وهي نسبة مرشحة للارتفاع إذا استمرت الحرب كما يقول جميل.
إفقار الفلسطينيين
عقب العدوان الإسرائيلي على غزة، رصدت وزارة الاقتصاد الفلسطينية الوضع على الأرض، وحصرت 1803 منشآت قال القائمون على 96.4% منها إن السبب الرئيسي لانتكاسة أنشطتها الاقتصادية هو تراجع حركة الشراء، بينما تأثر نشاط 80% منها بالاجتياحات المتكررة للمدن والمخيمات والبلدات الفلسطينية، وكانت هجمات المستوطنين والجيش سببا في تباطؤ نشاط ما نسبته 15.1% من المنشآت المشمولة، وتسببت تلك الاعتداءات بضرر مباشر في البضائع أو أحد الأصول الثابتة لـ 6.3% من المنشآت الاقتصادية التي طاولتها هجمات المستوطنين بحسب ما جاء في تقرير "أداء المنشآت الاقتصادية في الضفة الغربية خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة"، الصادر في يناير/كانون الثاني 2024.
2.3 مليار دولار أميركي خسائر إنتاجية في أربعة أشهر
ويمارس الاحتلال نوعين من الاستهداف الاقتصادي، الأول من خلال إجراءات الجيش التي أدت إلى تدمير البنية التحتية والمحال التجارية وعبر نشر الحواجز العسكرية حول المدن ما أعاق عملية تسويق المنتوجات البينية، والثاني من خلال اعتداءات المستوطنين الذين يعترضون طريق المواطنين أثناء تنقلاتهم بين حوارة جنوب نابلس وترمسعيا والمغير شمال رام الله، ويحرقون المحلات والمنشآت الاقتصادية كمعارض السيارات والمطاعم، ليصبح الضرر مضاعفا ويؤدي بشكل مباشر إلى حرمان الكثير من الأسر الفلسطينية من دخلها، والأخطر أن نسبة كبيرة من الأسر المتضررة من إرهاب المستوطنين انزلقت إلى الفقر بعد فقدان مصادر دخلها، كما يؤكد رشاد يوسف، مدير السياسات والتخطيط في وزارة الاقتصاد الفلسطينية.
آمال تموت في دقائق
يعيش الثلاثيني أحمد أبو راس في خوف دائم من خسارة "مشروع العمر" ومصدر دخله الوحيد وعدم تمكنه من إيجاد عمل مجددا، إذ كان يملك محلا ومقهى على الطريق الرئيسي الواصل بين رام الله ونابلس، والذي يسلكه المستوطنون، وتحاصره 4 مستوطنات، وفي 12 يناير 2024، وصلت 3 مركبات تقلّ 16 مستوطنا، وباشروا تكسير المحل بالحجارة، ولم يستغرق الأمر سوى 3 دقائق ليخسر وشريكه 85 ألف شيكل (23 ألف دولار)، "ناهيك عن خسائر 7 أشهر من الإغلاق في ظل عدم وجود وسيلة للحماية من تلك الجرائم".
تعاون وتكامل بين الجيش والمستوطنين لإفقار الفلسطينيين
لكن خسارة عبد العظيم وادي أكبر، إذ هاجم المستوطنون في 13 إبريل/نيسان الماضي، مزرعة لتربية الدواجن أسسها وفق نظام حديث مغلق في بلدة قصرة جنوب نابلس، ليفقد مصدر دخل العائلة الأساسي، بعدما أصبح خرابا خلال دقائق وبسبب هجمة واحدة للمستوطنين عاد إلى الوراء 10 سنوات، عقب تدمير المزرعة بالكامل وحتى أعمدة الكهرباء التي كانت تغذيها بالتيار حرقوها، ومعها 10 آلاف طير، ويكلف إعادة بناء المزرعة التي كانت تعمل على مدار العام بمعدل 10 دورات، نحو 100 ألف دولار، إضافة إلى خسائر التوقف عن العمل في الشهور السبعة الماضية، وفق وادي، موضحاً أن خسارته لم تكن مادية فقط، بل خسر أخيه وابنه برصاص المستوطنين، بالقرب من مفرق قرية الساوية جنوب نابلس، أثناء مشاركتهما في موكب تشييع أربعة شهداء من القرية في الثاني عشر من أكتوبر الماضي.
وإلى جوار منطقة المزارع وادي، توجد تسع مزارع لتربية الدواجن في البلدة ذاتها جرى إغلاقها ويحرم الأهالي من الوصول إليها عقب السابع من أكتوبر الماضي، لأن ريف نابلس الجنوبي قريب من مستوطنة يتسهار، التي ينطلق منها الإسرائيليون الأكثر تطرفا والذين أحالوا حياة الفلسطينيين في القرى القريبة إلى جحيم، ويكبدونهم خسائر فادحة، بسبب حرق محال تجارية ومركبات نقل، ما سينعكس أثره على الوضع الاقتصادي لسنوات مقبلة، حتى وصل الحال بالتاجر عبد الله محمود عودة من بلدة حوارة جنوب نابلس، إلى عرض منزله للبيع بعد تدمير المستوطنين لمصدري دخله من معدات نقليات وشاحنات، ومنتجع سياحي بقرب مستوطنة يتسهار، وبحصر خسائره، قائلا: "أحرقوا عددا من الشاحنات وجرافة بشكل كامل، و20 مركبة، إضافة إلى حرق المنزل، في 24 فبراير/شباط الماضي، لأخسر في أيام معدودة 3 ملايين دولار على الأقل".
جميع أشكال الإنتاج هدف للتدمير
يقطن حمدان محمد في قرية سوسيا شرق مدينة يطا جنوب محافظة الخليل، وتحاصرها ثلاث مستوطنات وخمس بؤر استيطانية ومعسكر لجيش الاحتلال، ما أجبره على بيع ثلثي أغنامه بسبب مضايقات وهجمات المستوطنين المتكررة، والذين أصبحوا يرتدون زي جيش الاحتلال، ويمنعون المواطنين من الوصول إلى أراضيهم الزراعية التي تعتبر مصدرا أساسيا للمراعي والغذاء، وتنسحب الحال ذاتها على مربي الثروة الحيوانية في قرى عوريف ومادما وبورين وعصيرة القبلية، وقصرة وجوريش وعقربا ودوما جنوب نابلس، والمغير شمال رام الله، وتجمعات بدوية قرب محافظة أريحا والأغوار، وهو ما يؤكده عماد زيادة من قرية مادما القريبة من مستوطنة يتسهار، قائلا لـ"العربي الجديد": "بسبب مضايقات المستوطنين واعتدائهم المتكرر علينا وعلى أراضينا، اضطررت لبيع المواشي والأغنام لدي رغم أني أعتاش منها أنا وأسرتي، ومن أصل 40 رأسا أبقيت على 5 أغنام فقط، لم يعد باستطاعتي توفير الطعام بسبب قلة المراعي وحرماننا من الوصول إلى أراضينا وخسرت 60 ألف شيكل (16.341 دولارا) خلال شهر، في مجال الثروة الحيوانية فقط، كما نخسر الخضراوات والقمح والشعير في أراضينا الزراعية الموجودة في أطراف القرية، بسبب منعنا من الوصول لها نتيجة الحواجز التي يضعها المستوطنون باستمرار، وهذه المحاصيل نعتمد عليها في معيشتنا عبر بيعها في الأسواق".
وينعكس تغول المستوطنين على المواسم الزراعية وخاصة حصاد الزيتون وإنتاج زيته، والذي انخفض من 33 ألف طن سنويا، إلى 11 ألف طن في الموسم الذي تلا السابع من أكتوبر، بسبب منع الفلسطينيين من الوصول الى أراض تقدر مساحتها بنصف مليون دونم، واقتلاع المستوطنين 9 آلاف شجرة زيتون، بحسب داود.
من يعوض الفلسطينيين عن خسائرهم؟
يؤكد داود أن الخسائر الناتجة عن اعتداءات المستوطنين قبل شهر في المغير شمال رام الله ودوما وقصرة جنوب نابلس، قدّرت بـ 22 مليون شيكل (6 ملايين دولار)، ويقول "إن الحكومة والهيئة رصدتا كافة الاعتداءات والمتضررين منها من أجل العمل على تعويضهم، لكن هناك أزمة مالية تعصف بالحكومة الفلسطينية وحصار مالي مفروض عليها، وبالتالي لا يوجد أموال".
وتأكيدا على صعوبة الوضع الاقتصادي، يوضح رشاد يوسف، أن وزارة الاقتصاد تسعى إلى إنعاش بعض القطاعات الاقتصادية من خلال دفع جزء من رواتب الموظفين، لكن في ظل استمرار الحرب من الصعب أن يكون هناك سياسات تحفيزية، ولكت توجد خطة إنعاش اقتصادي ستطبقها الحكومة الجديدة بعد انتهاء الحرب، ترنو إلى تحفيز بعض المنشآت الاقتصادية التي تضررت من الظروف أو اعتداءات الجيش والمستوطنين من خلال إعفائها من بعض المتطلبات وتقديم بعض التسهيلات لإعادة عملها.
ووسط هذه الظروف، يجمع الضحايا الذين قابلهم "العربي الجديد" على أنهم لم يتلقوا أي تعويضات عمّا خسروه، ولم يستفيدوا من أي شكوى تقدموا بها إلى الشرطة الإسرائيلية حتى اليوم، ومن بينهم عبد العزيز حامد من قرية بيتين شرق رام الله شمال البلاد، والذي خسر معرض مركبات بشكل كامل، عقب إضرام النيران فيه قائلا لـ"العربي الجديد": "خسرت كل ما أملك بعد هجوم للمستوطنين وإحراق معرض المركبات قرابة الساعة الثانية من فجر يوم 24 من يناير الماضي"، مشيرا إلى أن جهازي الشرطة والمباحث الفلسطينيين حضرا إلى المكان، وتقدّم ببلاغ وشكوى ضد المستوطنين، وقد أخبروه بأن الملف قيد المتابعة القانونية، فيما حضر عناصر من الشرطة الإسرائيلية أيضاً وتقدم ببلاغ وشكوى وإفادات ضد المستوطنين، بالإضافة إلى ما وثقته الكاميرات في معرض المركبات، وحتى اللحظة لم ترد أي أخبار عن ملف التحقيق"، كما يقول حامد الذي تقدر خسارته بـ 200 ألف دولار.