تتركز دور الرعاية غير القانونية في الريف الصيني
10 ديسمبر 2023
+ الخط -

أخفق نظام الرعاية الاجتماعية الصيني في دعم كبار السن الذين يتزايدون بسرعة ملحوظة خاصة في الريف، جراء سياسات تحديث المجتمع والهجرة الجماعية إلى المناطق الحضرية وتحديد النسل في ظل تآكل الرعاية الأسرية التقليدية.

يطارد المسن الصيني لاو جاو (78 عاماً) منذ عامين أقرباء مشغّل مؤسسة لرعاية المسنين بعدما ألقت السلطات القبض عليه بسبب عدم استيفاء شروط الحصول على ترخيص من الدولة، ما أدى إلى إغلاقها وسجن صاحبها، وعبثا حاول لاو المقيم في مدينة شانتو بمقاطعة قوانغ دونغ جنوب البلاد، استرجاع الأموال التي دفعها إذ تمثل جزءاً كبيراً من مدخراته والتي بالكاد تغطي احتياجاته الأساسية.

لدى لاو، ثلاثة من الأبناء، لكنهم يعملون جميعاً في مدن بعيدة، وتوفيت زوجته عام 2021 بفيروس كورونا، فاضطر إلى الالتحاق بمؤسسة خاصة لرعاية المسنين قريبة من محل إقامته، بسبب معاناته من ارتفاع ضغط الدم، والروماتيزم، وعدم انتظام ضربات القلب، ويقول: "دفعت مبلغ 50 ألف يوان صيني، (7 آلاف دولار أميركي)، مقابل المكوث لمدة عام في المؤسسة، وبعد 6 أشهر، دهمت السلطات المكان وصادرت محتوياته وألقت القبض على القائمين عليه، فاضطررت للعودة إلى منزلي بعد خسارة 40 في المائة من مدخراتي".

ولم يفكر لاو في الذهاب إلى مؤسسة مرخصة خاصة لأنها باهظة التكلفة إذ سيحتاج إلى أضعاف ما دفعه لحجز مكان فيها، بينما المؤسسات الحكومية محدودة والطلب عليها كبير بسبب رسومها الرمزية، كما أن الرعاية فيها محدودة والخدمات بدائية وغير كافية، على سبيل المثال لا تتوفر أجهزة الرعاية الذكية، مثل روبوتات تقديم الطعام، والروبوتات الطبية التي تقدم خدمات قياس الضغط ودرجة حرارة النزلاء، والأساور الذكية التي تتيح خدمات التواصل بين النزيل وأقربائه، فضلاً عن نقص عدد العاملين مما يعيق تقديم الخدمة بصورة منتظمة وفي الوقت المناسب.

 

أزمات التراجع الديموغرافي

يعد لاو واحداً من بين 82 مسناً وجدوا أنفسهم خارج أسوار دار الرعاية بعد إغلاقها من قبل السلطات، جميعهم تتجاوز أعمارهم 65 عاماً، وهؤلاء يدخلون ضمن عدد المسنين في مقاطعة قوانغ دونغ الذين تتجاوز أعمارهم 56 عاماً والبالغ عددهم 10.36 ملايين مسن، وهو ما يمثل 9 في المائة من إجمالي عدد سكانها، بينما يوجد في المقاطعة 1834 مؤسسة لرعاية المسنين بسعة 482.700 سرير، بحسب ما جاء في نشرة حكومية صادرة عن شبكة مؤتمر الشعب الإخبارية (حكومية).

دور رعاية المسنين الحكومية رسومها رمزية لكن خدماتها محدودة

ويبلغ العدد الإجمالي لمؤسسات ومرافق خدمات رعاية كبار السن في الصين 360 ألفاً توفر 8.126 ملايين سرير، بحسب بيانات اللجنة الوطنية للصحة الصادرة في سبتمبر/أيلول 2022، بينما بلغ عدد الصينيين الذين تبلغ أعمارهم 60 عاماً فأكثر 267 مليون نسمة يمثلون 18.9 في المائة من إجمالي السكان، ومن المتوقع أن يتجاوز العدد 300 مليون نسمة بحلول عام 2025، بحسب بيانات المكتب الوطني للإحصاء.

المسنون يمثلون 18.9 في المائة من إجمالي السكان

ويقدر تشان ده، نائب مدير مركز داليان لتحسين جودة رعاية المسنين في مقاطعة لياونينغ شمال شرق البلاد (مركز خاص)، عدد المؤسسات غير القانونية التي ضبطتها السلطات على مدار الأعوام الماضية، بنحو 20 ألف مؤسسة سنوياً. ولفت أنه خلال عام واحد ضبطت السلطات في مقاطعة هيلونغجيانغ شمال شرق البلاد، 273 دار رعاية خاصة غير مرخصة. أيضاً في محافظة يونغشون بمقاطعة خونان وسط البلاد أغلقت السلطات العام الماضي 7 مؤسسات من أصل 30 مؤسسة لرعاية المسنين.

وأوضح بأن عمليات الضبط تتم بواسطة اللجنة الوطنية للصحة، والتي تتحرى عن مدى التزام المؤسسات بمعايير العمل التي تحددها الدولة، إلى جانب الكشف عن تراخيص ممارسة العمل والمرتبطة بإنشاء مرافق خاصة مثل الحدائق والمساحات الخضراء وأماكن لممارسة الرياضة، وأن تكون قريبة من المرافق العامة في المدينة أو المنطقة. فضلاً عن توفير بيئة آمنة داخل المؤسسات، مثل سلامة البناء وخدمات الحماية من الحرائق، وكذلك مستوى قياسي من تشغيل الصرف الصحي والتهوية وغيرها من متطلبات السلامة والصحة. كما يتطلب الأمر أن يكون لدى المستفيدين من الخدمات تأمين رعاية طويلة الأجل وضمان صحي صادر من المدينة التي توجد فيها المؤسسة، في حين أن القانون الصيني لا يجيز التمتع بالضمان الصحي إلا في مسقط رأس المستفيد، مما يحرم شريحة كبيرة من المسنين المهاجرين من فرصة الانتساب لهذه المؤسسات.

 

التمييز بين الريف والمدينة

تتركز دور الرعاية غير القانونية في الريف الصيني بسبب قلة الرقابة الحكومية مقارنة بالمناطق الحضرية التي تخضع لرقابة مكثفة وصارمة، كما يقول تشان، مضيفا، أن المسنين من القرويين هم الأكثر تضرراً جراء إغلاق هذه المؤسسات التي لا يصحبها بالضرورة إعادة توطين للمسنين المسرحين، فضلاً عن خسارتهم المادية والأذى النفسي الذي سيلحق بهم بعد العودة إلى منازلهم حيث العزلة والوحدة. وتابع، لو سلمنا بأن الدولة تغلق كل عام 20 ألف مؤسسة غير مرخصة، وكل مؤسسة تضم 50 فرداً، فهذا يعني أن هناك حوالي مليون مسن يفقدون محل إقامتهم سنوياً ويواجهون مصيراً مجهولاً.

ويعاني الراغبون في الحصول على ترخيص لشركة تقدم خدمات رعاية للمسنين من صعوبات كبيرة لعدة اعتبارات يوضحها المحامي جيه كانغ، الذي ترافع في عدة قضايا تتعلق بالعمل غير المنظم لدور الرعاية الخاصة، قائلا :"الدولة هي التي تحدد التدابير والمعايير الخاصة لرعاية المسنين في البلاد، كما أن الحكومات الفرعية في كل مقاطعة تلعب دوراً أساسياً في التمويل فضلاً عن أنها تتمتع بوضع اقتصادي مستقل يتحكم في بنيتها التحتية". 

وأضاف أنه من الناحية العملية، يصعب على دور رعاية المسنين الخاصة وغير المرخصة الحصول على "شهادة الموافقة على إنشاء مؤسسات الرعاية الاجتماعية" من الحكومة ويلفت أن المشكلة تكمن في أن المجتمع الصيني طبقي تتفاوت فيه المستويات الاجتماعية والثقافية والمادية، فما يتوفر في المدينة لا يتوفر في الريف، وما يلائم المجتمعات الحضرية لا يناسب بالضرورة القرويين، بينما سياسة رعاية المسنين ومعاييرها ثابتة، على سبيل المثال اشتراط قرب المنشأة من المرافق الحيوية في المدن لا ينطبق على واقع الحال في الريف المتهالك من ناحية البنية التحتية، لذلك هناك حاجة ملحة لكسر سياسة "مقاس واحد يناسب الجميع". دون ذلك ستبقى المشكلة قائمة، حسب قوله.

 

لماذا تتفاوت العقوبات؟

يقول المحامي جيه كانغ إن عقوبة المنشآت المخالفة تتوقف على حجمها وعدد المستفيدين، والأموال التي جناها المشغل خلال فترة معينة. لكن أولى الإجراءات هي إغلاق المنشأة وفرض غرامات مالية حسب حجم رأس المال. ويوضح بأنه خلال العام الماضي، قضت السلطات المحلية في مقاطعة خونان وسط البلاد على شخصين بالسجن مدى الحياة بعد إنشاء مرفق غير مسجل لرعاية المسنين وجمع أكثر من 800 مليون يوان (125 مليون دولار) بشكل غير قانوني من عائلات المستفيدين. وتعكس العقوبة القاسية خطورة المخالفة (تشغيل منشأة وجمع أموال بشكل غير قانوني) ويشير المحامي جيه كانغ إلى أنها أقصى عقوبة منصوص عليها في القانون الجنائي الصيني. بينما في حادثة أخرى تم ضبط شخص يدير منشأة صغيرة غير مرخصة في مقاطعة قوانغ دونغ تضم 25 مسناً، حكم عليه بالسجن 4 سنوات، قبل أن يخرج في وقت لاحق بكفالة مالية.

الصورة
الحكومة الصينية ترفع من قيمة تأمين المعاش التقاعدي الخاص بالمسنين

وعن دور الدولة مما يحدث، يقول أستاذ الدراسات الاجتماعية في جامعة صن يات سن، وي لي فنغ، إن السلطات تكافح من أجل وضع حد لهذه الظاهرة، واتخذت العديد من الإجراءات خلال السنوات الأخيرة لتقليل المخاطر الناجمة عن ارتفاع معدلات الشيخوخة في البلاد. وأضاف أن الحكومة المركزية واجهت خلال العقد الأخير العديد من التحديات الخاصة بأزمة الشيخوخة، مثل: تآكل الرعاية الأسرية التقليدية، ونقص التمويل الخاص بخدمات رعاية المسنين، بالإضافة إلى نقص خدمات تقديم الرعاية وعدم كفاية الموظفين المختصين. وقال إن الهجرة الجماعية إلى المناطق الحضرية التي أعقبت الانفتاح الصيني، بالإضافة إلى سياسات تحديد النسل التي اتبعتها البلاد لنحو أربعة عقود، خلفت العديد من كبار السن في المناطق الريفية دون رعاية أسرية، الأمر الذي دفع الحكومة إلى إنشاء بنية تحتية حديثة نسبياً لمواجهة هذه المشكلة.

وطرحت الصين أول مجموعة من المعايير الوطنية الإلزامية لرعاية كبار السن وتوفير المتطلبات الأساسية لجودة الخدمات داخل هذا القطاع، في يناير/كانون الثاني من العام الماضي، كما أصدرت توجيهات إلى الحكومات المحلية بضرورة تعزيز صناعة الرعاية الذكية للمسنين، وبناء مجتمع صديق لهم، وحث الأبناء على توفير الرعاية لكبار السن في المنازل، لصيانة حقوقهم ومصالحهم، إضافة إلى تعزيز وعيهم بالوقاية من المخاطر الناجمة من الوقوع في شرك المؤسسات غير المرخصة، رفعت الحكومة من قيمة تأمين المعاش التقاعدي الخاص بالمسنين.

ومع ذلك يعتقد وي لي فنغ، بأن هذه الإجراءات غير كافية لحل الأزمة، لأن الصين قدمت نهج الرعاية المنزلية باعتباره حجر الزاوية في سياستها وشجعت من أجل ذلك على إحياء تقليد طاعة الوالدين، لكنها لم تعالج صلب المشكلة المتمثل في تفريغ الريف من الشباب والقوة العاملة، وبالتالي بقاء ملايين المسنين دون رعاية. ومع عدم توفير بدائل للشباب بسبب الفجوة الكبيرة في التنمية بين الريف والمناطق الحضرية، فإنه لا جدوى من الحديث عن الطاعة ما دام الأبناء مفصولين تماماً عن آبائهم وأجدادهم.