5 أفلام قصيرة: عزلة أمكنة وانفتاح على أسئلة وهواجس

24 ابريل 2020
غسان سلهب وبيروت عبر "النافذة الخلفية" (إريك كاتارينا/Getty)
+ الخط -
تستعيد زينة صفير ذكرياتٍ عن والديها، وعن العيش معهما في منزلٍ واحد قبل أعوامٍ. تتجوّل كارول منصور في شوارع المدينة، أو في أعماق ذاتها، بحثاً عن معنى أو تعبيراً عن انفعالٍ إزاء حدثٍ آنيّ، وغدٍ مجهول. تروي لميا جريج يومياتٍ تُعيدها إلى "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) اللبنانية، وتأخذها إلى لحظات آنيّة في مدينة تعاني حجراً وعزلة. يصمت غسان سلهب، فالكاميرا معه تقول بعض المخبّأ في زوايا الصُوَر أو في جوهرها، وجُملٌ من سامويل بيكيت كفيلةٌ بتعبيرٍ يُراد له أنْ يجعل صُور المدينة والبحر والأمطار والفراغ مرايا تتلاعب بتلك العلاقة الملتبسة بين ذاتٍ وخارجها. تتوه مروى خليل أمام كاميرا محمود حجيج في الأمكنة الضيّقة داخل منزلٍ، وتحاول أنْ تصنع من الأكل الشَرِه خلاصاً من وحشة اللحظة ووحشيتها.

مشروع سينمائيّ يختزل كلَّ فيلمٍ بمدّة قصيرة تتجاوز الدقائق الـ5 بقليل، باستثناء "ما بعد الأورجي؟" لحجيج (3 دقائق و33 ثانية). عنوان واحد يجمع الأفلام الـ5: "العيش في ظلّ الوباء". التجربة تُسلِّط "الضوء على ما تختبره البشرية بسبب فيروس كورونا"، كما في تعريف المشروع، الهادف إلى "المشاركة بالسرد والتوثيق خلال هذه المرحلة، وبالتالي تقديم وجهة نظر إضافية مختلفة عن تلك التي يُقدّمها الإعلام الإخباري". والمشروع نفسه "فرصة لمحاولة استيعاب كيف يتعامل الأفراد مع واقعهم خلال فترة الحجر" ("كاميرا واحدة/ أسبوع واحد/ 5 مخرجين"، إنتاج "درج" وISM).

في "إحساس غريب"، تتواصل زينة صفير مع صديقها إميل سليلاتي من دون أن يظهرا. الصوت حاضرٌ مع كاميرا تتجوّل داخل المنزل، وشريط يستعيد أباً وأمّاً، وحكايات تنتقل من ماضٍ إلى حاضرٍ، وتساؤلات تطرحها المخرجة، والصديق يُشاركها ويسألها فتبوح أكثر فأكثر. التجوّل سمة، وجغرافيا التجوّل مفتوحة على انفعالات وهواجس. المنزل مساحة، لكنّ جدران غرفه لن تحول دون خروجٍ آمن إلى آفاق ومشاعر، تحميه الكاميرا في بحثٍ داخل زمنٍ ماضٍ، مع أناسٍ باقين في ذاتٍ وشعور وعلاقة. العزلة المنزلية المفروضة حالياً على كثيرين حجّة لزينة صفير كي تتصالح مع مكانٍ، فتُحبّه مجدّداً بعد رحيل أحبّة. قسوة المخبّأ في ما وراء الصُور والكلام لن تُترجَم ندباً بل متعةً في الاكتشاف، وفي بلوغ المرتجى الدفين في الذات.



التجوّل سمةٌ أيضاً في "كوفيديو" (كلمتا "كوفيد" و"فيديو"، والعنوان بالإنكليزية مُعبِّر أكثر عن دمجهما في كلمة واحدة: COVID-eo Diary). كارول منصور تحوّل العزلة المنزلية إلى فضاء يتّسع لأسئلة لن تكون آنيّة فقط، لانفتاحها على ماضٍ ومستقبل. خوف وقلق يتحوّلان في كاميرا منصور إلى اندفاع نحو اختبار العزلة كدربٍ إلى محاورة الذات، والتنبّه إلى تفاصيل حاضرة سابقاً، لكنّها غير مُكتَشَفة بسبب انشغالات ويوميات. تجوّل منصور يأخذها إلى خارجٍ ملبَّدٍ بمطرٍ وفراغٍ ومسافات مفتوحة على البحر، لكنها تبدو كأنّها مُغلقة وضاغطة. الأسئلة كثيرة، فوباء "كورونا" لحظة في مسارٍ انحداريّ لاجتماعٍ وعلاقات، وكاميرا منصور تعرّي بعض هذا المسار.

لميا جريج تكتب يوميات "ليالٍ ونهارات في زمن الوباء"، كمن يمشي بين مطبّات وأهوال ورغبات وآمالٍ وانكسارات ومواجع. لن يحجب الوباءُ انتفاضةً، فالمرتجى كبير من الانتفاضة، والوباء إلى زوالٍ. صُوَرٌ تترافق وكلماتٍ تنطق جريج بها تعبيراً مباشراً وحسّياً عن عطبٍ يُراد خلاصاً منه، والكلمات والصُور والأشرطة والتداخل بين اللحظات كفيلةٌ بتبيان معالم دربٍ لن يكون سهلاً السير عليه نحو رغبات أو بوح، رغم أنّه (الدرب) وسيلة وحيدة للتجوّل.

مع غسان سلهب، تنفتح "النافذة الخلفية" على عوالم رمادية ومعتمة، وعلى صُور ليست صوراً مطلوبة ربما. لا كلام ولا تعليق ولا ضجيج ولا أصوات، باستثناء صوت المطر والصمت في المدينة، وصوت طائرة بعيدة في عتمة المدينة. كاميرا ثابتة، تُنقَل من غرفة مطلّة على البحر، إلى شارعٍ مُقيم في الصمت؛ ومن بوحٍ مرسومٍ بلقطاتٍ إلى جُمَل تقول، بتكثيف عميق، أشياء عن خطوة وحلم ومكان وتفاصيل تصنع هوامش أو تُصبح متناً.

التجربة مُثيرة لنقاش أوسع. المُشاهدة جزءٌ من مُشاركة في عيش لحظات، وفي تأمّل إضافيّ براهن ونكبات وذاكرة.
المساهمون