ذلك هو وباء كورونا العالمي، أو "كوفيد-19". حالُ الدنيا بعده، ليست كما كانت قبله. وكذلك هي حالُ الحياة الثقافية، والموسيقية خاصة. العاصمة لندن، أوصدت بوّابات مسارحها العريقة، كدار الأوبرا الملكية، وقاعة ألبرت الشهيرة. أوركسترا لندن الفيلهارمونية ألغت جولة عالمية كانت ستحطّ بها آخرَ الشهر، في كل من ألمانيا والنمسا ولوكسمبورغ.
أما في الولايات المُتحدة، فكُبريات الصالات في نيويورك، الساهرة أبداً، جميعها أُقفلت، ككارنيغي وأوبرا المتروبوليتان. أوركسترا بوسطن السيمفونيّة أوقفت جولتها الآسيوية. في إيطاليا الثكلى إثر حصيلة فاقت السبعة آلاف من القتلى، ها هو مسرح لاسكالا الشهير في ميلانو، مُغلق، حاله كحال المدينة.
لم تسلم فعّاليات الجاز والروك والبوب هي الأخرى. نيو أورلينز الأميركية، مسقط رأس الجاز، مهرجانها التراثي تأجّل إلى الخريف. فرقة الرولينغ ستونز ألغت جولتها الأميركية. وكذلك فعلت فرقة الهيفي ميتال، ميتاليكا. لن تكون جماهير المعجبين، في حضرة نجومهم العالميين، خلال ما كان يُتأمل بأن يكون ربيعاً مُزهراً، وصيفاً حاراً مُشمساً؛ شتورمزي، نجم الراب البريطاني، يُلغي حفلاته الآسيوية، في هون كونغ، وسنغافورة، وشنغهاي. ومادونا، تلغي حفلتها الباريسية. ماريا كيري، أوقفت تحضيرها حفلتها المُقبلة بسبب "تضييق إجراءات السفر".
على ذات المنوال، سار المُغنون العرب. ألغى عاصي الحلاني حفله في مصر آخر الشهر. واعتذر عمرو دياب عن إحياء ختام مهرجان القرية العالمية في دُبي. فيما ألغت أليسا حفل العراق بعيد النيروز.
أولئك هم النجوم، سبق لهم أن حققوا الشهرة، وجنوا الأموال على مرّ سنين. سيُحرمون من جمهورهم إلى حين. ستُلغى حجوزات، وتُدفع تعويضات، أو تؤجل العروض إلى موسمٍ قادم. في المنسوب الاقتصادي الأدنى، وليس بالضرورة الفني، الآلاف من مُغنين وعازفين ومُلحّنين، الموسيقى، مصدرُ رزق وقوت يوم. بالأجر الذي يتقاضونه لقاء كلّ حفل يُحيونه، يدفعون أجرة المنزل، ويسدّون مصاريف الحياة. أولئك، في فوضى كل تلك المسارح المُقفلة، والعروض المؤجلة، وظل رأسمالية لا توفر للفنانين أي شبكة أمان اجتماعية، ولا تنظر إليهم سوى بعين الربحية. أمسى كلّ هؤلاء، وبين ليلة وضحاها، ريشاً في مهب الريح.
بعيداً عن مصاب الفيروس وتبعاته اللوجستية والاقتصادية المعيشية، وخروجاً من القُمرة المُظلمة التي يقبع فيها العالم، ليُسلّط الضوء، ولو قليلاً، على موسيقى ما بعد كورونا. ما الذي طرأ، وما الذي سيتبدل؟ كيف سيبدو المشهد الموسيقي في المُستقبل؟ حدثٌ يُغيّر الكوكب، كما يُغيره هذا الفيروس، لا بد وأن يُغير أيضاً من سلوك وعادات البشر. بما فيها ارتياد الصالات الفنية، وحضور الحفلات الموسيقية؛ إذ إن ما يجري الآن، بوصفه حلاً طارئاً، وخطة بديلة، قد يتجذر ويترسخ، ليُصبح بمثابة أعراف سائدة وأمور بدهيّة.
يتردد مُصطلح "النأي الاجتماعي" كنهج لا بديل عنه في الحد من انتشار العدوى؛ حتى لو نجح العالم في السيطرة على كوفيد - 19 وتجاوز المحنة الحالية، فإن خطر الجائحات الارتدادية سيظلّ قائماً ولفترة طويلة. علاوة على أن أنواعاً جديدة من الفيروسات قد تظهر لتجتاح عالماً بات مُشبّكاً، مُتّصلاً، بالصناعة والتجارة والتكنولوجيا. لذا، فإن خطر الأوبئة العالمية سيبقى، والوقاية منها والاستعداد لها سيتأسس ثقافةً عامة.
الموسيقى، والسينما وألعاب الفيديو على نحو مشابه، بوصفها نشاطاً يُمارس فردياً أو جماعياً، فإن "النأي الاجتماعي" لا يُبطل التجربة الموسيقية كليّاً، بل يُغيّرها جزئياً. التأليف الموسيقي، مثله مثل الشِعر، غالباً ما يُنتجه شخصٌ بمفرده. ما عداه، يمكن للموسيقى أن تُمارس بأشكال فردية وجماعية. عوضاً عن أن التكنولوجيا سبق لها أن غيّرت جذرياً من طبيعة التجربة، مذ اخترع الحاكي، ثم الراديو، فالمسجّلة، واليوم، منصّات التحميل على الإنترنت، مكّنت جميعها من الاستماع إلى الموسيقى في البيت، داخل السيارة، وأثناء الجري في الطريق، أو المشي في الحديقة المُجاورة.
اليوم، ما تُبادر به القاعات الفنية الكبرى، كـ فلهارمونية برلين ومتروبولتان نيويورك، استجابةً لظرف صحيّ عامٍ طارئ، بتوفير أرشيف حفلاتها وأمسيّاتها متاحاً سماعه أون - لاين، قد يتحول من تكيّف إزاء ظرف قاهر، إلى أمر مألوف، مديد مستمر. وقد يتجاوز عَرض الأرشيف، ليُصبح بث الحفل حيّاً على الإنترنت ملازماً لإحياء كلِّ أمسية، حيث قلّة سترتادها فيزيائياً، تتوزع على أنحاء الصالة، في أوضاع "نأي اجتماعي" احترازية. وذلك مقابل ازدياد عدد الرواد الافتراضيين على الشبكة وحول العالم.
ذلك أمرٌ يحدث بالفعل، وللتو. ليس للموسيقى، وإنما للأفلام. بحسب صحيفة التايمز، فإن خدمات البث عبر الإنترنت، وفي أجواء الحجر الصحي، شهدت ارتفاعاً في الإقبال وصل إلى حد الـ 13% الأسبوع الماضي. بالمثل، تبدو ألعاب الفيديو اليوم أفضل حالاً، إذ سجّل سوق آبل للتطبيقات تحميل أكثر من 222 مليون لعبة في الصين وحدها منذ أول فبراير/ شباط المُنصرم. بالمقابل، فإن دور السينما، التي تعاني التراجع المزمن في نسب الارتياد، تستعد لأسوأ عام يمرّ على الصناعة السينمائية في تاريخها.
ذلك فيما خصّ الاقتناء والاستماع. أما الممارسة، فإن عزف أي آلة موسيقية ممكنٌ بشكل منفرد. حتى إن الإلكترونية منها يمكن استعمالها في عزلة صوتية، عبر وصل سماعات تتحلّق حول الرأس، أو تدخل الأذنين. أما تكنولوجيا قادم الأيام، فستتيح العزف الجماعي حتى في ظل "النأي الاجتماعي"؛ كان جيل الإنترنت الرابع قد قطع أشواطاً في تقليص الزمن اللازم لانتقال المعلومات عبر أبراج البث وبين الأجهزة المُشبّكة، حتى بلغ عتبة العشرين جزءاً من الثانية.
أما الجيل الخامس، فمن المُرتقب أن يُحرز ما دون تلك العتبة. سَبْقٌ، من شأنه أن يتيح العزف الجماعي عن بعد، لدقة التزامن بين صورة تنقل الحركة الفيزيائية والإيماءة الجسدية، وبين صوت ينقل نغمات الآلة الموسيقية، خلال السيرورة الزمنية الطبيعية المفترضة للمقطوعة أو الأغنية.
زمان ما بعد كورونا ستُميّزه، كما يبدو، جدلية التناقض والتضاد. فمن جهة، أيُّ مواجهة مُقبلة مع موجات أوبئة عالمية مُحتملة، ستستدعي أرقى وأعقد أشكال التعاون والتنسيق، سواءً داخل الدول وبين الدول، أو داخل المجتمعات وبين المُجتمعات.
من جهة أخرى مُناوئة، أنماطٌ من الانعزالية، مدفوعة بالخوف المديد المستقر، سواءً على مستوى السياسات المحلية والوطنية، والعلاقات الدولية، أو حتى على صعيد سلوكيّات البشر فُرادى وجماعات، ستتأسس في الفضاء الخاص والعام، كسُبلٍ استباقية، وقائية للحد من انتقال عدوى محتملة عبر الحدود الرخوة للعولمة. لذلك سيُغيّر من طبيعة الحياة الاجتماعية عامةً، بلغتها وآدابها وأعرافها، وعمل المرافق المُرتبطة بها. والموسيقى مستقبلاً، سواءً في مجال التذوق والاستماع، أو حقل الممارسة والإبداع، لن تكون بمنأى عن ذلك التناقض وهذا التضاد، بل مظهراً من مظاهره.