سمير سيف... تلويحة لصاحب "شمس الزناتي"

11 ديسمبر 2019
كأنه تعمد أن تكون صورته وهو مبتسم (فيسبوك)
+ الخط -
إذا كنت صانع سينما في مصر خلال العقود الخمسة الأخيرة، فلا بد أنك جلست في محاضرة واحدة - على الأقل - لسمير سيف، عَلمك فيها شيئاً ثميناً عن الأفلام والإخراج. أما إذا كنت محباً مخلصاً للسينما، فبالتأكيد تعرف اسمه وأفلامه، وتقدر مسيرته الطويلة التي مزج فيها بشكل صعب ونادر في السينما المصرية بين الطبيعة التجارية والنجاح الجماهيري لأفلامه من جهة، وبين الجودة التقنية والتقدير النقدي. وفي حالِ لم تكن هذا ولا ذاك، وكنت فقط مشاهداً يتفرج على الأفلام للتسلية في التلفزيون المحلي، فأنت - دون حتى أن تدري - تُدين لسمير سيف بالكثير من الساعات الممتعة التي قضيتها أمام أعمال مثل "شمس الزناتي" أو "المشبوه" أو "غريب في بيتي"، وغيرها من أفلامٍ أخرجها الرجل الذي صار جزءاً من الثقافة الشعبية المصرية، والذي رحل بهدوء مساء التاسع من الشهر الجاري إثر أزمة قلبية، كأنه يعمد أن تكون صورته الباقية في الذاكرة هي صورته مبتسماً ومتحمساً وممتلئاً بالحركة والطاقة والأحلام.

البداية
يحكي سيف أنه عرف برغبته في أن يكون مخرجاً وهو في الثانية عشرة من عمره أو أقل قليلاً، وأنه حينها كان يحب الأفلام ويحاول أن يقرأ عنها، وحين فهم من الكتب القليلة التي اقتناها بأن هناك من يدير كل شيء ليخرج بالصورة النهائية المضيئة على الشاشة قرر أن يكون مخرجاً. لحسن الحظ أن معهد السينما افتتح في مصر قبل سنوات قليلة من مراهقته، لذلك فحين أنهى الثانوية العامة عام 1965 كان أمامه خياران: أن يدخل كلية كبرى (كالاقتصاد والعلوم السياسية)، كما أرادت العائلة، أو يدرس السينما في المعهد الناشئ، وبشكل ثوري للغاية تحدى أسرته ودخل المعهد الذي لم يخرج منه بعد ذلك، كطالبٍ لأربع سنوات، ثم كمدرس لعقودٍ طويلة.


كان أكثر ما يميزه، والشيء الذي سيطبع مسيرته بعد ذلك كمخرج أو كأستاذ ومعلم، هو أنه "محب للسينما" بالأساس، يتعامل معها من موقع متفرّج يريد الاستمتاع بساعتي الفيلم ويتفاعل مع أبطالها، ولذلك فقد أراد منذ اللحظة الأولى أن يصنع أفلاماً مثل التي أحبها، ولذلك كان صادماً جداً في ذلك الوقت أن تكون أولى خطواته فيلم مثل "دائرة الانتقام" (1976)، كاقتباس مصري مختلف عن رواية "كونت دي مونت كريستو" وبفيلم "حركة" لا يدعي أي أفكار كبرى. رغم الفتور النقدي الذي قوبل به الفيلم إلا أن نجاحه الكبير، وفي لحظة سيئة وساكِنة من تاريخ السينما المصرية، دفع العديد من النجوم والمنتجين نحو سيف، ليخرج - وهو لم يزل في بداية الثلاثينيات من عمره - ثلاثة أفلام متتالية بعدها، هي "قطة على نار" (1977)، "إبليس في المدينة" (1978)، و"المتوحشة" (1979)، حققت كلها نجاحات جعلته مخرجاً مهماً من الناحية التجارية، وأثبتت أيضاً تفوقه التقني وإجادته لأنواع سينمائية مختلفة تربط بينها الحرفة والتسلية.

النضوج والشركاء
مع بداية الثمانينيات، وصل سيف لدرجة كبرى من التوهّج والنضوج الفني، بدأت بأهم وأفضل أفلامه "المشبوه" (1981)، والذي رغم كونه اقتباساً عن الفيلم الفرنسي (Once a Thief 1965)، إلا أن سيف، مع السيناريست إبراهيم الموجي، استطاع منحه صبغة مصرية خالصة، وشخصيات صادقة ومنحوتة تتجاوز حتى جودة الأصل. وإلى جانب كل هذا، فقد كان نجاح الفيلم بداية لشراكة فنية طويلة (8 أفلام) مع عادل إمام، الذي صرح بعد ذلك بأن سيف كان المخرج الوحيد الذي يثق فيه إلى درجة تسليم نفسه دون سؤال.
في ذلك الوقت أيضاً بدأ تعاونه مع السيناريست الشاب - حينها - وحيد حامد، ليكوّن معه شراكة فنية أخرى استمرت لـ30 عاماً، قدما خلالها 14 فيلماً ومسلسلين، أهمها "الغول" (1983)، و"آخر الرجال المحترمين" (1984)، و"الراقصة والسياسي" (1990)، حيث منح حامد لسيف نصوصاً جذابة تعتمد على خلفية سياسية واجتماعية تزيدها قوة، بينما منحه سيف حرفية وتنفيذاً سينمائياً قوياً للقصص والأفكار.



وحتى في أعمالهما الأكثر خفة، مثل "غريب في بيتي" (1982)، استطاعا خلق لحظات وشخصيات خالدة وباقية، فلا أحد في مصر لا يعرف "شحاتة أبو كف"، الذي صار مثالاً للاعب الكرة الموهوب الذي تعطله الشهرة والإغراءات، وكان أداء نور الشريف للشخصية هو تعاونه الثالث مع سيف، صانعاً شراكة أخرى امتدت لـسبعة أفلام تالية.
ومع هؤلاء الشركاء، وفترة التألق الناجحة تلك، أخرج سيف أفلاماً جماهيرية بامتياز، مثل "النمر والأنثى" (1987)، و"المولد" (1989)، وبالطبع اقتباسه الشهير للـ"ساموراي السبعة" في النسخة المصرية "شمس الزناتي" (1991)، وحتى تلفزيونياً حقق نجاحاً ضخماً مع مسلسلي "سفر الأحلام" (1986)، و"البشاير" (1987)، وكلاهما من كتابة حامد.

خفوت المخرج وبقاء المعلم
منذ منتصف التسعينيات، ومع مشاكل السينما المصرية وتغير المزاج العام للجمهور وغلبة سينما الكوميديانات الجدد، خفت نجم سيف كثيراً. صحيح أن المسيرة الكبيرة لم تخل من أعمالٍ قوية، مثل "أوان الورد" (2000)، الذي كان نقلة في شكل مسلسلات التلفزيون حينها، أو فيلمه الكبير وتعاونه الوحيد مع أحمد زكي في "معالي الوزير" (2002)، إلا أنه خلاف ذلك كان يعاني من تعثر إنتاجي، وتقابل أفلامه بفشلٍ تجاري للمرة الأولى.


في المقابل، كان الشيء الثابت الذي حافظ عليه وظل متقداً فيه دون أي تغيير هو تدريس مادة الإخراج في معهد السينما، ثم لاحقاً في معاهد أو ورش أخرى مستقلة، وتعلمت منه أجيال وأجيال من السينمائيين المصريين منذ السبعينيات، وحتى أيامه الأخيرة ظل مرتبطاً بطلاب ومحبي السينما، يحادثهم ويعلمهم ويساعدهم في إنجاز مشاريعهم، قبل أن يرحل فجأة تاركاً وراءه هذا الإرث الكبير من الأفلام والتلاميذ والسينما والمحبة.
دلالات
المساهمون