نهاية العالم... كيف سنغنّي الأفول الكبير؟

14 يونيو 2020
اقترحت "كايروكي" في "هاتلنا بالباقي لبان" نهايةً للعالم (فيسبوك)
+ الخط -
في كتابهِ "الأسلوب المُتأخّر"، يتحدث إدوارد سعيد عن المرحلة المتأخرة من حياة بعض العازفين الموسيقيين والمؤلفين، لافتًا إلى أن وعي الشخص بنهايته الحتمية/موته، يؤثر على كتابتهِ أو أسلوبه، وهو سبب تسمية الكتاب.

من وجهة نظر سعيد، فإن إدراك الموت، إما عبر المرض أو التقدّم في السن، يدفع بالشخص إلى سيناريوهات عدّة، إما استقبال هذا الإدراك بالجنون والانطلاق نحوه دونما اكتراث، أو التروي وأخذ الحياة خطوة بخطوة بما يتحقق في إنجاز هذا الشخص، ليأخذ منحىً آخر تجاه بعض المواقف التي كان يُظنّ بأنه لن يعيد التفكير فيها.

مع بداية أزمة كوفيد-19، بدأ رواد مواقع الإنترنت بالسخرية حول نهاية العالم، وأن نهايتنا لم تكن زلزالًا أو نيزكًا كما تمنّى البعض، وإنما عبر فيروس متناهٍ في الصغر يفتك بنا ويبطئُ حركة العالم بعد تسارعٍ بدأ منذ فجر الثورة الصناعية. كانت الأغاني إحدى أشكال هذه السخرية في العالم العربي، فقد انتشرت نكتة تقول: "رأيت أمير عيد يشتري السجاير من السوبرماركت، وعندما عرض عليه البائع الباقي، رفضه وطلب بالباقي لِبان"، في إشارة إلى أغنية كايروكي "هاتلنا بالباقي لبان"، والمغني الرئيس فيها إذ تُشير الأغنية إلى نهاية العالم.

تناولت العديد من الأعمال الفنية السردية ثيمة نهاية العالم، ونذكر الفنون السردية لقدرتها على البحث في موضوع كهذا والاستفاضة فيهِ. مثلًا، يكاد الشعر العربي يخلو من الحديث عن الأوبئة أو الجائحات. وفي السياق الروائي، سواء المكتوب أو المصوّر، تكون نهاية العالم دائمًا لأسباب طبيعية، وقلّما صُوّرت على أنها صَنيعة بشرية بالكامل. فإما أن يتوجه نيزك للأرض، أو تنقلب البحار عاليها سافلها، أو تهجم موجات جليدية من القطبين على العالم، وهذا النوع من التحدّي الميثولوجي -إن صح التعبير- يصوّر حالة الإنسان مع الطبيعة، والتي كانت دائمًا ومنذ تطورهِ، حالة تحدٍ دائم.

لم يكن الإنسان أبدًا جزءًا متكيفًا طبيعيًا، وإنما يكون تكيفه على حسابات أخرى، فهو يتحدى الطقس والجبال والبراكين بالبناء والدفاع. يتحدى الأمراض وقانون البقاء للأصلح، بتطوير الطِب والعلاجات. يتحدى الكوكب، بالخروج منهِ. علاقة قائمة على التحدّي، وكأن كل واحد منهما يحاول التحكم في الآخر، ودائمًا، تبقى الطبيعة هي المنتصرة.

فِي العقود الأخيرة من القرن العشرين ظهر نوع من الأغاني الديستوبية أحيانًا والمتفائلة في أحيانٍ أخرى، وتتحدث عن نهاية العالم، ولا يكون التحدث هنا بمعنى سرديّ، وإنما بالمعنى التفاعلي، وإظهار للحالة الشعورية التي تختمر المغنّي/ة، وهو أمر شبيه بالقراءة الشعرية، فكيف كانت نهاية العالم مغنّاة؟





بالباقي لبان
نبدأ بأغنية أمير عيد من ألبوم "أولاد البطة السوداء"، الصادِر في 2019. بعد تجاوز المعنى الواضح لاسم الألبوم في الثقافتين العربية والأجنبية، يمكننا أن ننظر إلى أعمال أمير عيد وفرقة كايروكي بشكل عام بأنها تعبير عن الحالة التي يعيشها الشباب العرب. فالفرقة (أو أمير عيد) التي ظهر اسمها من ميدان التحرير، وهي تغني عن الحريّة، ولاحقًا غنّت "اتجنن" ناشرة التفاؤل بأمل جديد وحياة، صارت أغانيها مؤخرًا تعبيرًا عن حالة شبه سوداوية تحيق بالمجتمع المصري والعربي. عقب انحسار المدّ الثوري في البيئة المصرية، أصدرت كايروكي ألبوم السكة شمال والذي يبدو من اسمه مُختلفًا، وخفّ فيه ظهور الغيتار الخشبي وبروز الغيتار الكهربائي، ثم تبعه ألبوم نقطة بيضا وبعده ألبوم أولاد البطة السوداء، الذي سيطرت عليه الأدوات الكهربائية والتصوير بألوان معينة تسيطر على الفيديوهات. مثّلت هذه الأغاني انتقالات عدّة مرت بها المنطقة. مثّل القفزة من أغنية حمزة نمرة «احلم معايا» قبل عقدٍ من الزمن وحتى أغنيته "داري يا قلبي".

«لو بكرة نهاية العالم، هنزل أفوّل عربيتي ** واخدها واعدي عليكي ننزل نتفسح ** مش عارف هنروح فين هنسوق زي المجانين وهنركن في الممنوع ** ونمشي حافيين». بهذه الكلمات تبدأ الأغنية، ونرى أن المغنِّي لا يحلم بفعل أي أمر خارق، وإنما يريد أن يفعل أمورًا عادية للغاية. يريد أن يأخذ حبيبته في نزهة، أن يقود السيارة، وأن يركنها في مكانٍ ممنوع، وهنا نرى رغبة فِي كسر القوانين، وكسر المُعتاد عليهِ، ورغبة في كسر حاجز المؤسسة مرة أخرى، ولكن لماذا؟ لأنها نهاية العالم، ولن نخسر أي شيء.

في لقاءٍ معهِ، يُعلّق أمير عيد أنه في هذه المرحلة يرفض إنتاج أغانٍ أو إعلانات تُعبّر عن التفاؤل والأمل، وفي الوقت نفسهِ، يرفض أن يشارك في أعمالٍ تدفع إلى اليأس أو الإحباط، إذ إن المنطقة تشهد ما يكفيها من إحباطٍ وشعور بالهزيمة. خصوصًا للجيل الذي تمثله الفرقة.


باللغة الإنكليزية
شهد العالم فوز بوب ديلان قبل سنوات بجائزة نوبل للآداب. اعتمدت الفرق الغربية بشكلٍ عام استخدام الصُور الديستوبية لنهاية العالم للتعليق قضايا سياسية بالغالب مثل بوب ديلان وأغنية Talkin’ World War III Blues أو معناها الحرفي «عن اكتئاب/بلوز الحرب العالمية الثالثة»، وكلمة Blues هنا لها معنيان، الأول الاكتئاب، أو إحدى تصنيفات الموسيقى الغربية. غنّى بوب ديلان عن الخوف والتهديد الذي يراود العالم جرّاء الأسلحة النووية.

وبالحديث عن الحرب وعقدة الوحشية التي عانت منها أوروبا، فلا يمكننا إلا الحديث عن أغنية Gimme Shelter لفرقة The Rolling Stones والتي تعني «آويني» والصادرة عام 1969 مُتحدثة عن أشكالٍ عدّة من نهاية العالم. حروب وفيضانات إنجيلية ونيران ملتهبة وعواصف شديدة، وأيضًا اغتصاب وقتل في كل مكان.

استمرت هذه الثيمة في الأغاني المُعاصرة، سواء لمغنيين أفراد أو لفرق، وخير مثالٍ على هذا أغنية هوزير Wasteland, Baby، التي تشبه تهويدات النوم للأطفال، ولكنها صارت تتحدث بصيغة الأنا المباشرة وبرمزية رومانسية تتحدث عن الفردانية وحالة الخلاص الفردي في العالم. فكما كان الأمر مع كايروكي، الكل عند نهاية العالم يريد أن يقضي وقتًا وحده مع حبيبهِ دون انتقادٍ واضحٍ، ويظهر هذا في أغانٍ أخرى، مثل أغنية JP Sax «If The World Was Ending» وأغنية Trouble In Town لـ Coldplay من ألبوم «مزرعة الحيوانات» وهنا اقتباس الاسم من جورج أورويل متحدثًا عن معاناة الناس غير البيض في العالم، وأيضًا أغنيته Spies والتي تتحدث عن جواسيس في كل زوايا العالم وهاربين في كل الأرجاء، وهنا نشهد أن حالة التشرد والهروب والبحث عن مأوى ثيمة مُتكررة في أغاني نهاية العالم الغربية.

المساهمون