اليوناني ماكريديس وحلاوة العذاب: قسوة "الشفقة" ومتاهاتها

24 ديسمبر 2018
"شفقة" لبابيس ماكريديس: شعور أو إدمان؟ (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
هل بمقدور الإنسان أن يطلب من الآخرين منحه مشاعر ما، بصرف النظر عن ماهيتها، أكانت حبًّا أو عطفًا أو حنانًا أو شفقة؟ إنْ حدث هذا، وتكاتف الآخرون مع شخص لمُصاب ألمّ به أو بأفراد عائلته، هل يصحّ له ابتزاز الآخرين، ومطالبتهم بعدم الكفّ عن إبداء تلك المشاعر، حتى مع انتفاء أسبابها؟ أسئلة وجودية وضاربة بجذورها العميقة في صميم النفس البشرية وتعقيداتها، طرحها أحد أبسط أفلام عام 2018 وأعقدها: "شفقة"، الروائي الطويل الثاني لليوناني بابيس ماكريديس. 

كثيرون أُصيبوا بمأساة أو فاجعة في فترة أو أكثر من حياتهم. هذا طبيعي. عندها، يُحاطون بأقرب الناس إليهم أو أبعدهم، دعمًا وتعاضدًا ومواساة، وأحيانًا يقتصر الأمر على بضع كلمات، لباقة ومُجاملة، وفقًا لحجم الدائرة الاجتماعية والأسرية لهؤلاء. بطل الفيلم (يانيس دراكوبولوس) لا اسم له، محامٍ يبلغ 45 عامًا، يتعرّض لمحنةٍ تلمُّ بزوجته (إيفي ساوليدو)، فيُحاط بأناس يعرفونه فيتكاتفون ويتعاطفون معه ويشفقون عليه. لغاية منتصف الفيلم، لا مشكلة متعلّقة بمحيط تلك الشخصية، وحزنها المشحون والمكثّف، باستثناء مُبالغتها غير المفهومة.

مع انتصاف الأحداث، تُشفى زوجته بمعجزة غير متوقعة. لكن، بدلاً من أن تنقلب حالة المحامي إلى النقيض وتنتفي المُبالغة، يحدث ما لا يخطر في البال. فبعد شفائها، توقف مَنْ حوله عن الاهتمام به، وعن مشاركتهم حزنه وألمه. شعور الأسف والشفقة، الذي اعتاده من مُحيطه، انقلب تدريجيًا إلى شيء مَرَضي فيه. فهو لا يكتفي بالتقدير والامتنان والعرفان، بل بات لديه "استمتاع إدماني" بالشفقة، ورغبة حارقة في الإبقاء على المُجاملات الصغيرة وما تمليه حقوق الجيرة أو تفرضه الإنسانية، وإن يكن الثمن جلب الشقاء والبؤس إلى حياته.
لا يتعلق الأمر كثيرًا بكون المحامي كئيبًا أو مستمتعًا بالحزن، وبأنه يكون جيّدًا عند البكاء، أو بأنه مُتعلّق بقلقه جراء عدم البكاء فترة معينة من الوقت (يخشى على عينيه عندما تتوقفان عن ذرف الدموع، فيحاول إجبارهما على البكاء). الأمر أعقد وأدقّ بكثير، فالسيناريو يغوص عميقًا في مفهوم الشفقة ومشاعر الآخرين، وفي سبب كونها مشروطة. فللمحامي حياة مثالية، زوجته تحبّه وابنه يُقدّره. هو ثري جدًا وناجح في عمله، لكنه يفتقد الشعور بالشفقة. لا شيء أكثر من هذا. لا علاقة للكبرياء الشخصي أو الغرور أو الوحدة أو غيرها بهذا كلّه.

لذا، يبذل مجهودًا كبيرًا ليُبقي على اهتمام عامل مغسلة الثياب (ماكيس باباديميتريو) به، الذي لا يكفّ عن سؤاله عن زوجته والاهتمام بثيابه، إلى درجة منحه تخفيضاتٍ لمشاركته محنته؛ والجارة (جورجينا كريسكيوتي)، التي تُعِدّ له ولابنه فطيرة الحلوى كلّ صباح، والتي يرجوها الاستمرار بصنع الفطيرة بعد شفاء زوجته (يذهب إلى شقتها لتصنع له واحدة).

أيُمكن للمرء أن يستعذب ألمه، ويأبى مُفارقته؟ هل المُحامي مُصابٌ بمرض جديد اسمه فقدان الشفقة، أم أن هذا شعورًا طبيعيًا من شخصٍ يهتمّ به مَنْ حوله، ثم ينسحبون ويتوقفون تمامًا عن الاهتمام به مع انتفاء الأسباب؟ أهي مُبالغة، أم أن الطرف المُهتمّ يُلام ولو قليلاً على اهتمامه؟ حاول المحامي إبقاء الشفقة عليه بالسبل كلّها، ما دفعه في النهاية إلى اقتراف عملٍ دموي.

"شفقة" يدعو إلى السخرية اللاذعة، ومواقف كثيرة فيه تُثير الضحك. لكنه في عمقه الدرامي، يعيش أزمة المحامي، المرسوم سيكولوجيًا على نحو رائع للغاية، وإنْ يثير حزنًا ويحرّض على التأمّل. في النهاية، يصعب إدانة الشخصية كليًا، أو الانحياز التام إليها. فالموقف، بمأسويته، ليس من صنعها هي وحدها فقط.

بين عرضه الأول في الدورة 34 (18 ـ 28 يناير/ كانون الثاني 2018) لـ"مهرجان ساندانس السينمائي" ومشاركته في "أسبوع النقّاد" في الدورة الـ40 (20 ـ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، أثار "شفقة" أصداء طيّبة، لكنه لم ينل جوائز كثيرة، وهذا لا ينفي أهميته، فهو ليس سهل التناول. مُشوّق ومُضحك، لكنه مُغلّف بنبرة حزينة يصعب التخلّص منها. ومع اقتراب نهايته، تحضر الكآبة بكثافة، وتقوى أكثر بعد النهاية الدامية غير المُتوقعة أبدًا.

يُذكر أن سيناريو "شفقة" للأديب اليوناني إفثيميس فيليبو، أحد أبرز كتّاب السيناريو المُعاصرين. تعاون سابقًا مع يورغوس لانتيموس في "قتل غزال مقدّس" (2017) و"جراد البحر" (2015) و"الألب"(2011) و"ناب الكلب" (2009). اشترك بابيس ماكريديس في كتابة السيناريو، وهو التعاون الثاني لهما معًا بعد "إل" (2012). للسيناريست بصمة لا يمكن إغفالها، ما يُثير أسئلة كثيرة. هناك العمق الوجودي والعبثية والكآبة والسوداوية والفانتازيا والغرابة، وغيرها من مُفردات تميّز أفلام يورغوس لانتيموس وهي حاضرة بوضوح في "شفقة"، إلى درجة أنه لو لم يُوضع اسم ماكريديس كمخرج لـ"شفقة"، لظنّ كثيرون أنهم يُشاهدون فيلمًا جديدًا للانتيموس. وهذا ليس مردّه سطوة السيناريو والأفكار فقط، فالأكثر إدهاشًا كامنٌ في أن المُعالجة البصرية هي نفسها أيضًا. كذلك حركة الشخصيات وكلامها وتصرّفاتها. كما أن هناك تشابهًا في شريط الصوت.

كأن ماكريديس ينسخ أسلوب لانتيموس، من دون أي تحريف أو إضافة، أو كأن "شفقة" صورة طبق الأصل عن أفلام لانتيموس، مع أن ماكريديس أكبر سنًا، وأكثر انخراطًا في الكتابة والتمثيل والإنتاج والإخراج مقارنة به. أي أنه يُفترض بالتأثّر أن يكون معكوسًا.

لكن، هل ماكريديس متأثّر فعليًّا بلانتيموس؟ هناك تيار في اليونان يطلقون عليه اسم "السينما اليونانية الغريبة"، يقوده لانتيموس وماكريديس. أسلوب إخراجهما يصبُ في طريق يُرسِّخُ هذا التيار وجمالياته. لاحقًا، يتضح الأمر أكثر، خاصة مع توالي الأفلام الشبيهة بأفلامهما. وبالتالي، إلى أي حدّ لم يتأثر لانتيموس وماكريديس بسيناريوهات إفثيميس فيليبو؟ هل ما يظهر بصريًا وأدائيًا وصوتيًا وإخراجيًا محض تطبيق حرفي لسيناريوهاته، التي يصعب الفكاك من جمالياتها، أم أن إخراجها وتحقيق أثرها المطلوب لا يستقيمان بطرقٍ مُغايرة؟
المساهمون