المسابقة الرسمية في "البرليناله الـ69": "دببة" برلين محتارة

15 فبراير 2019
من "مُحطمة النظام" لنورا فنغشايدت (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
أوشكت الدورة الـ69 لـ"مهرجان برلين السينمائي" على الانتهاء، إذْ تُختتم مساء الأحد، 17 فبراير/ شباط 2019، بينما تعلن الجوائز مساء السبت، 16 الجاري. لم تظهر مفاجآت أو اكتشافات، ولم تصدر توقّعات وتكهّنات حول من سيفوز بـ"دببة" برلين. لم يبق إلّا القليل ليعرض في المسابقة الرسمية، بعد تخفيض عدد الأفلام المُشاركة إلى 16. لذا، يُمكن القول إن المهرجان عرف إحدى أضعف مسابقاته منذ أعوام، وأيضًا في أقسامه الرئيسية الأخرى، كـ"بانوراما" و"المنتدى" وغيرهما. 

في دورات سابقة، كانت تظهر أفلام أو أسماء مخرجين غير معروفين تُثير حماسةً وتُقدِّم جماليات وتصنع جديدًا، لكن هذه الدورة لم تشهد حتى الآن ما يمكن وصفه بـ"تحفة فنية" أو "مفاجأة المهرجان".

بطريقة درامية، يُودِّع ديتر كوسليك "البرليناله"، التي أدارها 18 عامًا. سيظلّ ماثلاً في الأذهان، لفترة طويلة، المستوى الضعيف لأفلام عديدة، وهذا نادرًا ما يحدث في المهرجانات الكبيرة، التي تواجه أحيانًا مشاكل تقنية، تؤدّي إلى تأخير موعد العرض، أو إعادة عرض فيلم بعد تشغيله بدقائق، أو إلغاء العرض كلّيًا. هذا "أسوأ" ما يحدث. لكن إدارة "البرليناله" ارتكبت ما هو أفدح في هذه الدورة، رغم أنها لا تتحمّل جزئيًا مسؤوليته. ففي رسالة موجّهة إلى الصحافيين، مساء الاثنين، 11 فبراير/ شباط 2019، نُشرت أيضًا على موقع المهرجان، تمّ الاعتذار الرسمي عن عرض الفيلم الصيني "ثانية واحدة" لزانغ ييمو، الذي عوّل عليه البعض قبل عرضه المنتظر (ليلة 15/2) في المسابقة الرسمية، واستُبدل بآخر للمخرج نفسه، أنجزه عام 2003 بعنوان "بطل" (جائزة "الدب الفضي ـ ألفريد باور" لأفضل إسهام فني). وأفادت الرسالة بأنّ أسبابًا تقنية في مرحلة ما بعد الإنتاج أدّت إلى استحالة الانتهاء من إنجاز الفيلم في الوقت المناسب، لعرضه في المهرجان. مفاجأة سيئة طبعًا، أضيفت إلى الحيرة العامة إزاء ضعف المستوى عمومًا.

يعزو البعض مسألة الضعف هذه إلى سياسة مدير المهرجان كوسليك، التي أخضعته للمساواة بين الجنسين، بإفساحه مجالاً أكبر للمرأة في التظاهرات ولجان التحكيم والتكريمات. ربما هذا صائبٌ قليلاً، لكن دورات سابقة تشهد عكس ذلك، مع أفلامٍ عديدة لمخرجات في مسابقاته المختلفة، وبعضها فائزٌ بـ"الدب الذهبي"، كما حصل في العامين الفائتين، مع "عن الجسد والروح" (2017) للهنغارية إلديكو أنيادي و"لا تلمسني" (2018) للرومانية آدينا بنتيلي. حينها، لم تنحدر الأفلام إلى هذا المستوى متوسّط القيمة. لكن قولاً كهذا لا يعتبر أن أفلام المسابقة الرسمية هذا العام سيئة إجمالاً، بل إنها "متوسّطة القيمة"، وغالبيتها متشابهة في هذا الأمر.

بعض الأفلام المخيّبة للآمال يحمل تواقيع مخرجين كبار، كالبولندية أجنيشكا هولاند (تُنطق هكذا بالبولندية) وفيلمها "السيد جونز"، الذي تمرّ منه أكثر من ساعة قبل بلوغ الموضوع، ما يُمكن اعتباره "زائدًا" كليًا عن حاجته، ولا ضرورة فنية له. مدّة طويلة استهلكتها هولاند لتمهّد لسفر السيد جونز إلى روسيا، زاعمًا أنه يريد إجراء حوار مع ستالين، ثم يتسلّل إلى أوكرانيا لتصوير المجاعة ونقل صُورها إلى العالم، تلك التي حدثت هناك في ثلاثينيات القرن الماضي. جزء أوكرانيا أقوى وأجمل وأكثر فنية. لكن هولاند لم تتوقف عنده كثيرًا، بل مرّت عليه سريعًا، ومن ضمن الأحداث، مفسحة المجال أكثر للثرثرة واللقاءات المُصوّرة في المكاتب والأماكن الداخلية.


الأمر نفسه حدث مع النرويجي هانز بيتر مولاند وفيلمه "سرقة الخيول"، الدائر في عوالمه السابقة. هذه المرة، لا إثارة ولا تشويق. المتعة الوحيدة مستمدّة من المونتاج الجيد، إلى درجة يُمكن القول معها إن المونتاج هو البطل. فالتوازن بين الإفراط في استخدام تقنية الـ"فلاش بلاك" الضعيفة فنيًا، والتعليق الصوتي على الأحداث لربط الماضي بالحاضر، حقّقه المونتاج في لحظات كثيرة. لكن، مع الوقت، لم تصمد تلك التقنية، خاصة في ظلّ انعدام قوّة النص والدراما وأداء نجم بحجم ستيلان سكارسغارد. ينطبق الأمر أيضًا على فيلم "طيبة الغرباء" للدنماركية لون شيرفيغ ("العربي الجديد"، 8 فبراير/ شباط 2019)، الذي افتتح الدورة الـ69 هذه، إذْ إن مستواه المتوسّط مقبول كـ"فيلم افتتاح إنساني نبيل"، لكن هذا لا يؤهّله لأن يكون أكثر من سهرة تلفزيونية، ومع ذلك شارك في المسابقة الرسمية.


من جهته، حاول الكندي دوني كوتي ـ في "مختارات شبح المدينة" ـ إنجاز فيلم إثارة وغموض وتشويق ورعب، بأسلوب درامي غامض وجذّاب، من دون الانزلاق إلى المألوف والمستهلك في هذا النوع. مع ذلك، أخفق إلى حدّ كبير: لا أحد يعرف إنْ كان هذا حادث سيارة أو عملية انتحار في قرية هادئة، يسكنها بضع مئات من الناس. لكن ما حدث يقلب حياة القرية وناسها رأسًا على عقب، ويؤدي إلى ظهور شاب ثم شخصيات غامضة، يُطلق عليها صفة "الغرباء" أو "الزائرين"، الذين يظهرون ثم يختفون، من دون سبب واضح أو مُبرّر.



أما الجيّد، فينقسم إلى موضوعي النفسيّ والديني. في النفسي، هناك "مُحطمة النظام" للألمانية نورا فنغشايدت: دراما حول مُراهقة (9 أعوام)، في مرحلة عصيبة من حياتها. تعاني اضطرابات عصبية، ومن فرط أداء حركي عدواني وعنيف. وفي الوقت نفسه، تحنّ إلى أمّها، الضعيفة والبلهاء. ترغب المُراهقة في أن تكون لها عائلة، وأن تعيش حياة سوية. الأدوية والعلاجات ووسائل التربية والمعاقبة لا تأتي بنتيجة. فقط الحنان والرحمة والتفاهم مفيدة، ورغم هذا فهذه المسائل كلّها غائبة عن انتباه المتعاطين معها، وهؤلاء، بينهم الأم، يريدون التخلّص منها، وإنْ تطلّب الأمر إرسالها إلى أفريقيا.

دراما نفسية أخرى بالغة الصعوبة والتركيب، بعنوان "الأرض تحت قدمي" للنمساوية ماري كرويتزر، الذي تتقاطع أحداثه، إلى حدّ كبير، مع "توني إردمان" (2016) للألمانية مارين آدي، على مستوى الضغوط نفسها في الحياة والعمل والأسرة، التي تعانيها البطلة. حالة الأخيرة متفاقمة، ربما بسبب السجل المرضي لعائلتها، إذ تلزم شقيقتها مستشفى الأمراض النفسية طوال مدّة الفيلم. هي تعاني "هلاوس" وقلّة نوم، وتتعرّض إلى ضغوط كبيرة في العمل لتحقيق أقصى النجاحات والطموحات، فتعمل أثناء عطلتها الأسبوعية أيضًا، لأن الأهمّ عندها كامنٌ في أن تحافظ، بأي شكل، على مكانة بارزة في الشركة التي تعمل بها، وعلى الحياة المرفّهة التي تعيشها.

من ناحية أخرى، يتناول "برحمة الرب" للفرنسي فرنسوا أوزون، الاعتداء الجنسي لأحد القساوسة على أطفال عديدين. يفجّر البطلُ القضيةَ، بشجاعة بالغة يُحسد عليها، أمام أولاده ثم علنًا، ويحثّ غيره على الاعتراف والمواجهة ومعاقبة الجاني، الذي يعترف بأفعاله. لاحقًا، وبعد ثرثرة وإطالة بالغين، تتّسع دائرة الضحايا. يهتم الإعلام، وتعترف الكنيسة، ويحقِّق القضاء بالمسألة، وينتهي الفيلم بأن "الأمر (لا يزال) قيد التحقيق". هناك جهد كبير قام به أوزون لإنجازه، متمثّل بتحقيق استقصائيّ بالغ الروعة، ووجهة نظر تقف مع الضحايا، مظهرةً جانبًا آخر من تلك القضية الشائكة. هناك تقاعس الأهل، وتوجّه إلى إدانة مبطّنة لهم، بسبب تجاهلهم لأطفالهم بعد إبلاغهم إياهم بما حدث معهم وهم صغار السنّ. كما يظهر مدى التعاطف، خاصة من المرأة والزوجة والحبيبة، مع الرجل في تلك القضية، وأحيانًا أبناء الضحايا، البالغين وغير البالغين.

في المقابل، يتناول "الله موجود، اسمها بيترونيا" للمقدونية تيونا ستروغار ميتيفيسكا، اللوثة الدينية والتقاليد البالية، التي كرّست ورسّخت ـ باسم الدين ـ قيمًا وعادات وتصرّفات اجتماعية بالغة التخلّف والعدوانية، إزاء المرأة أساسًا. يتحدّث الفيلم عن المرأة والصعوبات التي تواجهها للحصول على العمل، وعن التقدير والاعتراف في المجتمع المقدوني. ما يفجّر هذا كلّه كامنٌ في قصّة بسيطة، وظّفت فيها المخرجة تقليدًا مقدونيًا احتفاليًا، يتمثّل بإلقاء الصليب في النهر، فيتسابق الرجال في المياه الباردة للحصول عليه، ومن يفز به، يُصيبه حظٌّ إيجابي طوال العام. المشكلة التي تفجّر الأمور أن من تعثر عليه هي فتاة بائسة ومسكينة ومحبطة، كما أنها عاطلة من العمل والزواج والحب والجنس، وكلّ شيء آخر.

إلى ذلك، يوصف "أوندوغ، أو بيضة الديناصور"، للصيني وانغ كوانان، بأنه فيلم تقشّف بامتياز، في الدراما والشخصيات والأحداث وأماكن التصوير وحركة الكاميرا. في معظم فترات الفيلم، تتحرّك الكاميرا من اليمين إلى اليسار، ببطء ملحوظ، ومن مسافة بعيدة. ونادرًا ما تقترب من المكان، أو من وجوه الشخصيات. أحداثه تبدأ من العثور على جثة امرأة عارية في أحد السهول المنغولية، على بعد مئات الكيلومترات من أقرب حياة حضرية، فتُطرح تساؤلات: ما الأمر؟ من قتلها؟ ما الذي جاء بها إلى هذا المكان؟ لماذا هي عارية؟ متى قُتلت؟ لا يُقدِّم الفيلم إجاباتٍ لا تُشغل بال المخرج المهتمّ بقصة أخرى، عن شرطي طُلب منه أن يحرس الجثة، وفتاة منغولية ساعدت الشرطة. بالإضافة إلى فتاة ورفيق صباها، الذي يحبّها ويلحّ عليها كي يتزوّجها، وينجبا للبشرية أولادًا قبل انقراضها.

من أقوى وأفضل أفلام المسابقة، حتى الآن، "القفاز الذهبي" للألماني فاتح أكين، الذي بذل فيه أقصى جهد لنقل أحداث جرائم حقيقية شهدتها ألمانيا الغربية في القرن الماضي، "بطلها" قاتل متسلسل غير محترف، يعاني أمراضًا نفسية وجنسية، بالإضافة إلى إدمانه الخمر. كما أنه قبيح جدًا، تنفر النساء من دمامته، ما يجعلهنّ ضحايا له. تمكّن أكين من نقل أجواء الماضي بحذافيره، وأبدع فنيًا بشكل جميل في تنفيذ لقطات العنف والتنفير من القاتل وسلوكه الشاذ والعدواني، مُظهرًا إياها على الشاشة من دون مواربة، وباحترافية صادمة.

"حكاية الشقيقات الثلاث" للتركي أمين ألبِر، من أمتع الأفلام بصريًا وفنيًا. قصّته جديدة ومشوّقة، تدور أحداثها في قرية جبلية في أنطاليا، حيث تعيش 3 شقيقات يواجهن مشاكل حياتية عديدة، ويحاولن التعامل معها بسوية، كلٌّ بطريقتها الخاصّة. فيه بعض قتامة ودراما مأساوية، وعبارات ذكية، بعضها مضحك. كما يحيل كثيرًا إلى أعمال مخرجين أتراك كبار، أبرزهم نوري بيلجي جيلان.
دلالات
المساهمون