ارتباك واضح وانزعاج كبير في الوسط السينمائي الفرنسي، مع اتّهام جديد يلاحق المخرج البولندي الفرنسي، رومان بولانسكي، حالياً، مترافق مع بدء عروض فيلمه الأخير "إنّي أتّهم"، الفائز بجائزة "الأسد الفضّي ـ لجنة التحكيم"، في الدورة الـ76 (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان البندقية السينمائي"، في الصالات السينمائية في فرنسا، في أجواء متوترة. فقد ألغي عرض أولي له، وتتابعت اعتذارات أبطاله عن إجراء حوارات ترويجية عنه، وانطلقت دعوات إلى إيقاف عروضه أو مقاطعتها.
"إنّي أتّهم" يعود إلى مقال لإميل زولا في أواخر القرن الـ19، عن قضية اتهام الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس بالخيانة العظمى. وهي القضية التي كشفت عن تآمر الجيش، واختراق النظام القضائي الفرنسي، قبل إثبات براءته.
بدأت المسألة في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، مع شهادة مصوّرة فرنسية تدعى فالنتين مونييه، منشورة في جريدة "لو باريزيان"، كشفت فيها عن تعرّضها لـ"ضرب مبرح"، تلاه "اغتصاب"، قام بهما بولانسكي في بيته الجبليّ عام 1975، حين كانت تبلغ 18 عاماً. وبرّرت عدم التصريح بهذا حينها، بـ"الصدمة والتحذير"، كما بـ"الشعور بالعجز". أما الدافع إلى إعلان الأمر علناً، بعد 44 عاماً على الحادثة، فمتأتٍ من قولٍ للمخرج، ورد في حوار أجراه معه كاتب صحافي صديق له، يربط فيه بين قصّة "إنّي أتّهم" واتهامات باعتداءات جنسية، تواجهه في الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا: "صُنْعُ فيلمٍ كهذا ساعدني كثيراً. أجد فيه أحيانا لحظات عشتها. أرى الإصرار نفسه على إنكار الحقائق، وإدانتي على أشياء لم أفعلها. معظم الناس ينكّدون عليّ، وهم لا يعرفونني ولا يعرفون القضية". بالنسبة إلى فالنتين مونييه، يستحيل تَرْك المخرج المحكوم في الولايات المتحدة "يلبس" ثوب الضحية: "رأيتُه يُمجَّد باستمرار من مثقفين وفنانين، رغم الاتهامات والجدل حوله".
فهل يلقى رومان بولانسكي الدعم، ويُعتَبر "فوق" الاتهامات، كما تقول المُصوّرة؟
بعد الإعلان عن الاعتداء الجنسي، حلَّ صمتٌ في الوسط السينمائي الفرنسي. فهل هذا عائد إلى ما يتحلّى به بولانسكي من مكانة رفيعة في عالم الفن السابع، كما إلى صلاته الكثيرة التي جعلت حياته تستمر بشكلٍ عادي في فرنسا، رغم الاتّهامات؟ معروفٌ مثلا أن كاترين دونوف لم تتوقّف عن دعمه، لاعتقادها أنّ "معظم الناس لا يعرفون ما جرى". تييري فريمو، المندوب العام لمهرجان "كانّ" السينمائي قال، عام 2017، إنّ "هذا شأنٌ يجب معرفته جيداً قبل الحديث عنه". وحين اعترضت ناشطات نسويات على الاستعادة المقرّرة لأفلامه في السينماتِك الفرنسية، صرّح رئيسها كوستا غافراس بما يلي: "من 40 عاماً، يعيش (بولانسكي) حياة عادية. إنّ المسامحة ضرورية في المجتمع".
وعند مقارنة هذه المسألة بما جرى لمخرج آخر في فرنسا، أخيرًا، بسبب تهمة مشابهة، وإن كانت حيثياتها مختلفة، يبدو الفرق في المعاملة جليّا. الممثلة الفرنسية أديل هانل، الوحيدة المتضامنة مع فالنتين مونييه، صدمت أوساط الفن السابع الفرنسي، في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، بإعلانها، في موقع "ميديا بارت"، عن تعرّضها للتحرّش الجنسي، حين كانت تبلغ 12 عاماً، من المخرج الفرنسي كريستوف روجيا، خلال عملهما معاً عن "زنى المحارم"، في فيلمه الثاني "الشياطين" (2001). عدا عن تضامن عديدين معها من مشاهير السينما، كإيزابيل أدجاني وجان دوجاردان، تعرّض روجيا "لاستبعاد اجتماعي"، وطُرد من جمعية المخرجين SRF، كما صرّح في رسالة، أوضح فيها ما جرى، نشرها موقع "ميديا بارت" في 6 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، حين أثيرت قضية هانل.
اقــرأ أيضاً
منذ 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، موعد بدء عروضه التجارية الفرنسية، توالت الحملة على بولانسكي، وازدادت التعليقات والمواقف المتناقضة لسينمائيين وسياسيين، بعضها متعاطف معه، وبعضها الآخر مُندّد به. المخرجة نادين ترنتينيان قالت، في لقاء مع المحطة الإخبارية "بي أف إم"، إنّه لو لم يكن بولانسكي لتركناه بسلام، وإنّه ضحية اسمه، وهو مخرج عظيم، وإنّها الغيرة من شخص ناجح: "مضايقته في هذه الفترة، حيث يزداد العداء للسامية في أوروبا، أمر خطر. هرب صغيراً من الغيتو في بولندا". في المقابل، صرّح رئيس بلدية "نيس"، كريستيان إيستروسي، لإذاعة "فرانس أنفو"، بما يلي: "ليس لأنّه (بولانسكي) متّهم يعني أنه مذنب". فيما دعا البعض إلى مقاطعة الفيلم: "يجب عدم مسح ما فعله. مشاهدة الفيلم تعني مسح ما فعل".
ونشرت صحف فرنسية مقالات كثيرة عن الموضوع، بعضها يطرح السؤال التالي: هل يجب التمييز بين الرجل والفنان؟ في ردّ على تحقيق حول هذا، نشره موقع "20 دقيقة"، قالت إيريس برييه (باحثة فرنسية متخصّصة بتمثيل النوع في السينما)، إنّ "فصل شخصية الفنان عن أفعاله شأنٌ نخصّ به الرجال فقط، وهي حجّة غير منطقية. لماذا لا نطبّق هذا في حالات أخرى؟ مثلاً، رجل متّهم بالعنصرية لن يقال بصدده إنّه يجب فصل الرجل عن أفعاله". وأضافت أنّ بولانسكي "يستخدم موقعه كفنان ليتّصل بأولئك النساء". أما مدير "مهرجان فينيسيا السينمائي"، ألبرتو باربيرا، فردّ على جدل أُثير بُعيد إعلان مشاركة "إنّي أتّهم" في المسابقة الرسمية: "يجب التمييز بوضوح بين الرجل والفنان".
لكن المسألة لا تكمن في تساؤلات كهذه، لا إجابات عليها ("هل يجب فصل الفنان عن أفعاله" مثلاً)، بل في الاتّهامات التي لا يُمكن التأكّد من صحّتها، وفي هذا الاستيقاظ المتأخّر للضحايا، نتيجة الحركة الأميركية "مي تو"، والهوس الإعلامي الذي يغذّي هذه القضايا ويضخّمها، ويجعل من الشكوك حقائق مؤكّدة.
"إنّي أتّهم" يعود إلى مقال لإميل زولا في أواخر القرن الـ19، عن قضية اتهام الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس بالخيانة العظمى. وهي القضية التي كشفت عن تآمر الجيش، واختراق النظام القضائي الفرنسي، قبل إثبات براءته.
بدأت المسألة في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، مع شهادة مصوّرة فرنسية تدعى فالنتين مونييه، منشورة في جريدة "لو باريزيان"، كشفت فيها عن تعرّضها لـ"ضرب مبرح"، تلاه "اغتصاب"، قام بهما بولانسكي في بيته الجبليّ عام 1975، حين كانت تبلغ 18 عاماً. وبرّرت عدم التصريح بهذا حينها، بـ"الصدمة والتحذير"، كما بـ"الشعور بالعجز". أما الدافع إلى إعلان الأمر علناً، بعد 44 عاماً على الحادثة، فمتأتٍ من قولٍ للمخرج، ورد في حوار أجراه معه كاتب صحافي صديق له، يربط فيه بين قصّة "إنّي أتّهم" واتهامات باعتداءات جنسية، تواجهه في الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا: "صُنْعُ فيلمٍ كهذا ساعدني كثيراً. أجد فيه أحيانا لحظات عشتها. أرى الإصرار نفسه على إنكار الحقائق، وإدانتي على أشياء لم أفعلها. معظم الناس ينكّدون عليّ، وهم لا يعرفونني ولا يعرفون القضية". بالنسبة إلى فالنتين مونييه، يستحيل تَرْك المخرج المحكوم في الولايات المتحدة "يلبس" ثوب الضحية: "رأيتُه يُمجَّد باستمرار من مثقفين وفنانين، رغم الاتهامات والجدل حوله".
فهل يلقى رومان بولانسكي الدعم، ويُعتَبر "فوق" الاتهامات، كما تقول المُصوّرة؟
بعد الإعلان عن الاعتداء الجنسي، حلَّ صمتٌ في الوسط السينمائي الفرنسي. فهل هذا عائد إلى ما يتحلّى به بولانسكي من مكانة رفيعة في عالم الفن السابع، كما إلى صلاته الكثيرة التي جعلت حياته تستمر بشكلٍ عادي في فرنسا، رغم الاتّهامات؟ معروفٌ مثلا أن كاترين دونوف لم تتوقّف عن دعمه، لاعتقادها أنّ "معظم الناس لا يعرفون ما جرى". تييري فريمو، المندوب العام لمهرجان "كانّ" السينمائي قال، عام 2017، إنّ "هذا شأنٌ يجب معرفته جيداً قبل الحديث عنه". وحين اعترضت ناشطات نسويات على الاستعادة المقرّرة لأفلامه في السينماتِك الفرنسية، صرّح رئيسها كوستا غافراس بما يلي: "من 40 عاماً، يعيش (بولانسكي) حياة عادية. إنّ المسامحة ضرورية في المجتمع".
وعند مقارنة هذه المسألة بما جرى لمخرج آخر في فرنسا، أخيرًا، بسبب تهمة مشابهة، وإن كانت حيثياتها مختلفة، يبدو الفرق في المعاملة جليّا. الممثلة الفرنسية أديل هانل، الوحيدة المتضامنة مع فالنتين مونييه، صدمت أوساط الفن السابع الفرنسي، في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، بإعلانها، في موقع "ميديا بارت"، عن تعرّضها للتحرّش الجنسي، حين كانت تبلغ 12 عاماً، من المخرج الفرنسي كريستوف روجيا، خلال عملهما معاً عن "زنى المحارم"، في فيلمه الثاني "الشياطين" (2001). عدا عن تضامن عديدين معها من مشاهير السينما، كإيزابيل أدجاني وجان دوجاردان، تعرّض روجيا "لاستبعاد اجتماعي"، وطُرد من جمعية المخرجين SRF، كما صرّح في رسالة، أوضح فيها ما جرى، نشرها موقع "ميديا بارت" في 6 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، حين أثيرت قضية هانل.
أما مع بولانسكي، فقد أعلنت "هيئة المؤلّفين والمخرجين والمنتجين (ARP)" أنّ أيّ قرار بشأن المخرج سيُتّخذ بالاتفاق مع المخرجين الأعضاء، بينما لم تردّ "هيئة ترويج الأفلام (APC)" على استفسار "وكالة الصحافة الفرنسية" بهذا الخصوص.
لكن، بعد الحملات الإعلامية المكثّفة لكلّ ما يحيط بالفيلم وصانعه، منذ اتهامات مونييه، وخلال أسبوع واحد، تبدّلت معطيات عديدة، وبدأت ردود الفعل تظهر. فجأة، اعتذر جان دوجاردان (بطل "إنّي أتّهم")عن لقاء بخصوص الفيلم كان مقرّراً للمحطة الأولى في فرنسا، وألغي بثّ مقابلة مع الممثل لوي غاريل، مسجّلة قبل تصريحات مونييه. واستغنت الممثلة إيمانويل سينيه، زوجة بولانسكي ومؤدّية أحد الأدوار في عمله الأخير هذا، عن حملات الترويج، كما ألغيت مقابلات أخرى كانت مقرّرة مع الإذاعة الفرنسية "فرانس أنتير". ووقع الإعلام الرسمي الفرنسي ("فرانس 2" و"فرانس 3") بحرج شديد، بسبب مساهمته في موازنة الفيلم.منذ 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، موعد بدء عروضه التجارية الفرنسية، توالت الحملة على بولانسكي، وازدادت التعليقات والمواقف المتناقضة لسينمائيين وسياسيين، بعضها متعاطف معه، وبعضها الآخر مُندّد به. المخرجة نادين ترنتينيان قالت، في لقاء مع المحطة الإخبارية "بي أف إم"، إنّه لو لم يكن بولانسكي لتركناه بسلام، وإنّه ضحية اسمه، وهو مخرج عظيم، وإنّها الغيرة من شخص ناجح: "مضايقته في هذه الفترة، حيث يزداد العداء للسامية في أوروبا، أمر خطر. هرب صغيراً من الغيتو في بولندا". في المقابل، صرّح رئيس بلدية "نيس"، كريستيان إيستروسي، لإذاعة "فرانس أنفو"، بما يلي: "ليس لأنّه (بولانسكي) متّهم يعني أنه مذنب". فيما دعا البعض إلى مقاطعة الفيلم: "يجب عدم مسح ما فعله. مشاهدة الفيلم تعني مسح ما فعل".
ونشرت صحف فرنسية مقالات كثيرة عن الموضوع، بعضها يطرح السؤال التالي: هل يجب التمييز بين الرجل والفنان؟ في ردّ على تحقيق حول هذا، نشره موقع "20 دقيقة"، قالت إيريس برييه (باحثة فرنسية متخصّصة بتمثيل النوع في السينما)، إنّ "فصل شخصية الفنان عن أفعاله شأنٌ نخصّ به الرجال فقط، وهي حجّة غير منطقية. لماذا لا نطبّق هذا في حالات أخرى؟ مثلاً، رجل متّهم بالعنصرية لن يقال بصدده إنّه يجب فصل الرجل عن أفعاله". وأضافت أنّ بولانسكي "يستخدم موقعه كفنان ليتّصل بأولئك النساء". أما مدير "مهرجان فينيسيا السينمائي"، ألبرتو باربيرا، فردّ على جدل أُثير بُعيد إعلان مشاركة "إنّي أتّهم" في المسابقة الرسمية: "يجب التمييز بوضوح بين الرجل والفنان".
لكن المسألة لا تكمن في تساؤلات كهذه، لا إجابات عليها ("هل يجب فصل الفنان عن أفعاله" مثلاً)، بل في الاتّهامات التي لا يُمكن التأكّد من صحّتها، وفي هذا الاستيقاظ المتأخّر للضحايا، نتيجة الحركة الأميركية "مي تو"، والهوس الإعلامي الذي يغذّي هذه القضايا ويضخّمها، ويجعل من الشكوك حقائق مؤكّدة.