حين يتصفح قارئ عربي ما يُنشر عن الفن والفنانين في غزة، سيقع على مواضيع تذهب في معظمها إلى تناول ذوي الإعاقة و"إبداعاتهم"؛ ليعتقد القارئ أنَّ غزة مدينة ليس فيها سوى أشخاص مصابين بإعاقات مختلفة، ويملكون إبداعات ومهارات خارقة برغم الإعاقة، أي أنَّ تناول الموضوع يأتي بالأساس في إطار تصوير غزة على أنها الضحية الشامخة، معتقدين أنَّ هذه هي الطريقة المُثلى لإبهار العالم وشدّ انتباه القارئ، وهو ما لا يحدث بكل الأحوال.
لا نستطيع تجاهل ما يمرّ به الأشخاص ذوو الإعاقة من ظروف قاهرة وتحديات جمّة، لكن ما هو طبيعي أن هؤلاء الأشخاص، كأي شخص في المجتمع، من الممكن أن يكون مبدعاً، ومن الممكن ألا يملك أي موهبة. أما ما يحدث، فهو في مضمونه استكثار على الشخص المصاب بإعاقة ما، أن يكون مبدعاً في أيٍّ من الفنون. فضلاً عن أنَّ هذه التقارير والمقالات والتقارير عملت خلال أكثر من عقد من الزمان على تنميط غزة ووضعها في إطار المدينة المنكوبة التي لا تنتج سوى الحرب والقتلى... وذوي الإعاقة، فكيف أنتجت فنّاً؟
عاش كاتب هذه السطور في غزة لـ 27 عاماً، ولم نكن نسمع أخبار المدينة في التلفاز، بل كنّا نعيش هناك. وحين نقرأ ما يُنشر عن "هوايات وفنون يمارسها ذوو الإعاقة"، نشعر بأن الإعلام والصحافة يتناولان بلاداً أخرى غير التي نعرفها.
الطريقة التي تظهر بها هذه المدينة للمَسامع والعِيان، تجعل كل شيء فيها كثيراً ومستكثراً وهجيناً ومستهجناً. الإبداع والفن مستكثران، بل قد تراهما سحراً إن تطلب الأمر. أليس من حق الصحافيين - وربّما واجبهم أيضاً - أن يكتبوا عن البلاد التي أصيبت بجرثومة الاحتلال والحصار والقمع والحبس القسري؟ لكن الحقيقة أن الأمر لا يجري بهذه الطريقة، بل إنَّ أسلوباً غريباً باتت مؤسسات ومواقع وصحف ومرئيات تستخدمه لإظهار غزة بالشكل الذي أراده لها العالم، أو ربما لم يُرده، وإنما هي فوضى الإعلام ونباهة الإعلاميين.
اقــرأ أيضاً
قرأنا خلال السنوات السوداء التي يعيشها قطاع غزة مئات التقارير، أو العناوين بالأحرى - لصعوبة احتمال ما يُقال - التي تناولت قضايا الأشخاص ذوي الإعاقة بطريقة تؤكد للناس أنَّ ما يخرج من غزة لا يعدو كونه أمراً غريباً وهجيناً، وأنَّ من يعيشون هناك هم أناس يحاولون أن يكونوا أفضل برغم الظروف التي تحيطهم، وهي بطبيعة الحال "شحاتة" ضمنية على الوضع والقضية والحالة، أو بإمكاننا القول إن الصحافيين يبحثون عن عمل، وعن مادة يومية تجنبهم ملاحظات رئيس التحرير الذي ينتظر مادةً من غزة، وخصوصاً أنَّ مكاناً كغزة يبيع تذاكره سريعاً على شبّاك الصحافة.
لا نستطيع تجاهل ما يمرّ به الأشخاص ذوو الإعاقة من ظروف قاهرة وتحديات جمّة، لكن ما هو طبيعي أن هؤلاء الأشخاص، كأي شخص في المجتمع، من الممكن أن يكون مبدعاً، ومن الممكن ألا يملك أي موهبة. أما ما يحدث، فهو في مضمونه استكثار على الشخص المصاب بإعاقة ما، أن يكون مبدعاً في أيٍّ من الفنون. فضلاً عن أنَّ هذه التقارير والمقالات والتقارير عملت خلال أكثر من عقد من الزمان على تنميط غزة ووضعها في إطار المدينة المنكوبة التي لا تنتج سوى الحرب والقتلى... وذوي الإعاقة، فكيف أنتجت فنّاً؟
عاش كاتب هذه السطور في غزة لـ 27 عاماً، ولم نكن نسمع أخبار المدينة في التلفاز، بل كنّا نعيش هناك. وحين نقرأ ما يُنشر عن "هوايات وفنون يمارسها ذوو الإعاقة"، نشعر بأن الإعلام والصحافة يتناولان بلاداً أخرى غير التي نعرفها.
الطريقة التي تظهر بها هذه المدينة للمَسامع والعِيان، تجعل كل شيء فيها كثيراً ومستكثراً وهجيناً ومستهجناً. الإبداع والفن مستكثران، بل قد تراهما سحراً إن تطلب الأمر. أليس من حق الصحافيين - وربّما واجبهم أيضاً - أن يكتبوا عن البلاد التي أصيبت بجرثومة الاحتلال والحصار والقمع والحبس القسري؟ لكن الحقيقة أن الأمر لا يجري بهذه الطريقة، بل إنَّ أسلوباً غريباً باتت مؤسسات ومواقع وصحف ومرئيات تستخدمه لإظهار غزة بالشكل الذي أراده لها العالم، أو ربما لم يُرده، وإنما هي فوضى الإعلام ونباهة الإعلاميين.
خذ مثلاً: أحد التقارير يقول: "... لم تمنع الإصابة التي يعاني منها فلان الفلاني التي أثرت بإحدى قدميه في الحرب الإسرائيلية عام 2008، من مزاولة هوايته التي رافقته منذ الصغر؛ لتتحول إلى مهنة يقضي خلالها ساعات يومه، راسماً من خلالها الأفكار التي تجول في خاطره لعرضها على المتابعين". هذا النص جزء من تقرير طبيعي يقرأه مُتصفّح طبيعي، وقد يتساءل: ما المطلوب؟ الشخص المذكور في التقرير أصيب في قدمه، ومع ذلك يستغرب معد التقرير أنَّ الشخص المصاب في قدمه يرسم بيديه، لكنه تجاهل أنَّ يدي فلان الفلاني سليمتان، أي أن باستطاعته ممارسة هواية الرسم من دون جعل هذه الممارسة فعلاً خارقاً يتطلب منك إعداد تقرير "خارق" بطبيعة الحال. ألا يبدو الأمر تلفيقاً يسعى إلى عرض المدينة وأهلها ضمن صورة مُحدّدة ستجعل من الغزّيين سلعةً إعلامية رائجة تُحقّق مقروئية عالية؟
في مقال للكاتب عمَّار فارس بعنوان "برنامج شباب توك: سيرك الكائنات المغلوبة"، نُشر على موقع "جيل"، يقول فيه إنَّ تحويل بعض النماذج والأشخاص إلى حالات فريدة ومستهجنة، من شأنه أن يحيلها إلى كائنات سيرك، أو مخلوقات فضائية، واستعراضها بوصفها مدعاة للفرجة. وفعلاً، إن تناول هذه القضايا بهذه الطريقة يزيد من الصورة التي ترسخ إيمان المجتمعات بعجز هذه الفئات واستكثار أي إنجاز يقوم به الأشخاص ذوو الإعاقة.قرأنا خلال السنوات السوداء التي يعيشها قطاع غزة مئات التقارير، أو العناوين بالأحرى - لصعوبة احتمال ما يُقال - التي تناولت قضايا الأشخاص ذوي الإعاقة بطريقة تؤكد للناس أنَّ ما يخرج من غزة لا يعدو كونه أمراً غريباً وهجيناً، وأنَّ من يعيشون هناك هم أناس يحاولون أن يكونوا أفضل برغم الظروف التي تحيطهم، وهي بطبيعة الحال "شحاتة" ضمنية على الوضع والقضية والحالة، أو بإمكاننا القول إن الصحافيين يبحثون عن عمل، وعن مادة يومية تجنبهم ملاحظات رئيس التحرير الذي ينتظر مادةً من غزة، وخصوصاً أنَّ مكاناً كغزة يبيع تذاكره سريعاً على شبّاك الصحافة.