"ذا بلاتفورم"... وليمة العلامات البصريّة

31 مارس 2020
يعتمد الفيلم صيغة تقليديّة في أفلام الرعب (يوتيوب)
+ الخط -
يُخاطب فيلم "ذا بلاتفورم" The platform، الذي بثّ مؤخراً على نتفليكس، مُخيلة المشاهدين بمختلف ميلوهم الفكريّة. هو مزيج من العلامات البصريّة واللفظيّة التي تنفتح على كل ما يمكن قراءته من النظريات السياسيّة، وعلاقة الأفراد مع السلطة. في ذات الوقت، يمكن قراءة كل علامة موجودة فيه على حدة، وتتبع تغيّرها ضمن الفيلم، بدءاً من عمارة السجن نفسه وأسلوب التلصّص بين أعلى وأسفل، مروراً برواية "دون كيخوته" الموجودة مع جورينغ، انتهاء بمفهوم الوليمة وطقوس الالتهام ودلالاتها الدينيّة، ثم صيغتها الأشد المرتبطة بأكل لحم البشر والخلاص المرتبط به، والمتخيلات الوحشية و"اللاإنسانيّة" التي تفترضها بعض مقاربات الطبيعة البشريّة، التي يظهر ضمنها أكل لحم البشر كنتيجة عقلانيّة.

يعتمد الفيلم صيغة تقليديّة في أفلام الرعب أو الإثارة التي تراهن على الطبيعة البشريّة وعلاقتنا مع الآخرين في ظل التهديد بالموت، والتي تتجلّى بالحبس في مكان واحد تحت سيطرة شخص أو منظومة وحشيّة تدفع الأفراد إما إلى الشر المطلق المتمثل بالقتل والتهام لحم البشر، أو الخير المطلق والتضحية بالذات في سبيل الخلاص، إلى جانب الرهان على التشويق المرتبط بغموض الحدّ الأخلاقي الذي عادة يمنع الأفراد من بعض تصرفات، ثم ما يلبث أن ينهار إن كان الفرد حبيس فخّ متقن ومحكم، يتم نهاية كشف نقضة ضعفه والخلاص، وهذا ما يظهر في أفلام عديدة أشهرها سلسلة "Saw" و"Cube".

سنحاول الحديث عن جانب واحد من الفيلم يرتبط بالطعام، ومفهوم الوليمة وإتقان صنعها، كذلك التعليق على فعل الالتهام نفسه، خصوصاً أن الفيلم يراهن على القرف المرتبط بما يدخل الفم، فتلاشي القرف في الفيلم كلما انحدرنا في طبقات السجن يكشف لنا عن تناقض القرف الجوهري، ما نشمئزّ منه يعتمد على البصر وعلى ما نتخيله بصرياً أولاً، لتأتي بعدها الرائحة والطعم، وغياب رد الفعل هذا لدى السجناء يكشف عن تطوريّة جهاز القرف الحيويّ، بوصفه ثقافياً في كثير من الحالات، ويعتمد على ذاكرتنا، والذوق الذي تتم تربيته منذ الصغر حول ما يمكن خلطه وما لا يمكن خلطه وشكل التقديم وأسلوبه، لا الطَعم الحقيقي، الأهم أن الغروتيسك ونظام الطعام الدوني الذي تختلط فيه سوائل الجسد مع اللحوم والخضروات والمشروبات والكلمات البذيئة أشبه بمزيج كرنفالي عقيم، أي لا تنتج عنه حياة أو ولادة، بل استمرار بالموت، وعلى الرغم من أن الفيلم نهاية يعطي أملاً بالخلاص من نوع ما، مرتبط بـ"الطعام النظيف" و"متقن التزيين" بوصفه "وليمة" للفتاة التي تحمل رسالة للـ"أعلى".

هذه الثنائيّة المرتبطة بالالتهام ورد الفعل مما يؤكل تتسع في الفيلم حين نتحوّل للحم البشر الذي تظهر دلالاته الدينية بوضوح، عندما استخدام كلمة "المسيح" لوصف بعض الشخصيات، وتحرك اللحم البشري بين المقدّس الذي لا يجوز المسّ به وبين "الطعام" الذي يمكن التهامه من أجل النجاة، كحالة الاقتباس الشهير عن يسوع الناصري: "خذوا كلوا. هذا هو جسدي، هذا هو دمي الذي للعهد الجديد". الأهم أن صيغة القرف الثقافيّة، في ما يخص لحم البشر، تظهر حين يقوم العجوز المسجون بتغيير اسم جورينغ ووصفه بالحلزون، وذلك كي ينفي القرف المرتبط باللحم الحيّ المقطوع من الجسد البشريّ ويستبدله بصورة أشدّ شاعرية ولذّة.


يظهر ضمن حفلة العلامات المفتوحة للتأويل للأقصى في الفيلم مفهوم النبوءة، تلك التي لا يصدقها أحد في البداية، والتي تنطقها ممثلة آسيويّة انتهى الأمر بها إلى الجنون، ثم القتل لرفضها نظام الطعام القائم. الأهم وجود الفتاة الصغيرة في الأسفل نهايةً، يحيلنا إلى ذات الصيغة الباختينيّة الكرنفاليّة، تلك التي تنبعث فيها الحياة من القاع المليء بالقرف والديدان والموت والطعام المتعفن، وتتجه إلى الأعلى بشكل ولادة جديدة، لتعيد النظام إلى توازنه، أو تطرح عليه سؤالاً بوصفها، هذه الحياة، شهدت ما هو شديد الدونيّة، لا على مستوى القرف فقط، بل في ما يخص الطبيعة البشرية وتحولاتها والعنف الذي من الممكن أن تصل إليه تحت التهديد الشديد.
دلالات
المساهمون