أحمد زكي باشا.. معادلة الوظيفة والثقافة

26 مايو 2020
(أحمد زكي باشا)
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، السادس والعشرين من أيار/ مايو، ذكرى ميلاد اللغوي والباحث المصري أحمد زكي باشا (1867 - 1935).


في تتبّع مسارات النخبة المتعلّمة التي ارتبطت بحكم محمد علي باشا وأسرته، ثمة نمط منهم كان يمارس دوره في التحديث من مركزه الوظيفي، ونمط آخر كان يعتقد أن تطوير المؤسسة وإداراتها لا ينفصل عن موقعه كمثقف يمتلك رؤيته الخاصة، وينتمي إلى هؤلاء اللغوي والباحث المصري أحمد زكي باشا (1867 – 1934) الذي تحلّ اليوم الثلاثاء ذكرى مولده.

كحال كثير من مجايليه، كانت الترجمة تضمن لصاحبها الارتقاء في سلّم الوظيفة، ومنهم مؤلّف كتاب "قاموس الجغرافيا القديمة" الذي بدأ حياته المهنية مترجماً في محافظة السويس عام 1887 بعد حصوله على شهادة جامعية في الحقوق، ثم سكرتيراً في مجلس النظّار (مجلس الوزراء) ليمثّل الحكومة في مؤتمر المستشرقين الذي انعقد عام 1892 في مدينة لندن.

منذ أن تعرّف زكي باشا على عدد من الأكاديميين الغربيين المهتمين بالحضارة الإسلامية الذين ارتبط معهم بعلاقات وثيقة، وجال مكتبات أوروبا للاطلاع على المخطوطات العربية النادرة فيها، قرّر إعادة اكتشافها وتقديمها، ليسخّر من أجل ذلك إمكانياته الشخصية، وفي موقع المسؤولية أيضاً، إذ تقدم بمشروع إحياء الأدب العربي للحكومة المصرية التي أقرّته وخصّصت له ميزانية مرتفعة آنذاك، وحقّق بعض أمّهات الكتب مثل "الأدب الصغير" لابن المقفع، و"التاج في أخلاق الملوك" للجاحظ، و"الأصنام" و"أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام" لابن الكلبي، و"مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" لابن فضل العمري.

أدرك صاحب كتاب "موسوعات العلوم العربية" أن دوره الإحيائي يتطلب منه مزيداً من الحفر والتنقيب، ما حفّزه لوضع عشرات الدراسات منها "دروس في الحضارة الإسلامية" و"مدائن الأندلس" و"قاموس الأعلام الأندلسية" و"مدن الفن في الأندلس"، ويتفرّغ نهائياً للبحث حين تفاعد عام 1921.

كتَب الباحث المصري الكتب والرسائل وأدب الرحلة وأوراقاً علمية قدّمها في المؤتمرات التي شارك فيها، واستنزف وقتاً طويلاً في الكتابة الصحافية ينشر مقالاته وتحقيقاته اللغوية والتاريخية التي تعكس اطلاعه الواسع وقراءاته المعمّقة، لكنه لم يجمع معظمها لتظلّ بين أرشيف الجرائد أثراً يدلّ على تأملاته في تاريخ العلم والأفكار والحضارات.

كما يحيل اشتغاله بالتراث العربي وإحيائه إلى همّ أكبر بهويته العربية التي أحسّ أنها تتعرّض إلى أكبر عملية طمس ومحو بفعل الجهل المستشري وبطء عملية التحديث، ما يفسّر اهتمامه بالآثار وترحاله بحثاً عن القبور والمساجد والمسكوكات والمحاريب والأواني والزخارف، دارساً ومتفحصاً الروايات التاريخية حولها ومدقّقاً في تطابقها مع الواقع.

كما أولى زكي الملقّب بـ"شيخ العروبة" عنايته بمسألة أخرى ذات صلة، وهي تصحيح أسماء الأعلام والبلدان والوقائع والأحداث في مجال اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا، ولكن بحثه في هذا المجال ظلّ موضع تشكّك البعض، لذلك ظلّ يزيد على معجمه الضخم وينقح محتوياته إلى أن رحل دون إصداره، فمنهم من اعتبره نبشاً في مفردات قديمة غير مستعملة أو متداولة، وآخرون التفتوا إلى أهمية تأصيله لتاريخ هذه الكلمات في العربية وانتقالها وعبورها من وإلى لغات أخرى.

لم تغيّب عين الباحث موضوعاً يهمله الكتّاب العرب في زمنه، ما دفعه لتأليف كتاب من أربعين صفحة بعنوان "الترقيم وعلاماته في اللغة العربية"، بل إنه كان يضع في مقدّمة عدد من كتبه الأخرى ملاحظات حول هذه العلامات التي من دونها سيحتلف فهمنا لما نقرأه من نصوصه، واضعاً الأمثلة لإثبات وجهة نظره ومحذّراً من عدم استخدامها؛ تحذير يتجاهله كثيرون حتى اليوم.

جهده في الترقيم لا ينفصل عن رؤيته الصحافية، وهو الذي لم يتوقّف عن انتقاد الأساليب التقليدية في الكتابة، داعياً إلى استعمال لغة واضحة ومألوفة تلبِي إحتياجات الأمة الفكرية والحضارية؛ لغة لا تأبه بالسجع والبديع وتذهب نحو المعنى بدقة ومباشرة.

أخلص زكي باشاً الذي ينتمي والده إلى مدينة يافا الفلسطينية وأصوله البعيدة إلى المغرب -تختلف الروايات حول عائلته التي استقرت في الإسكندرية-، للوظيفة قدر إخلاصه لمشروعه الثقافي الخاص، وآمن بعدم تناقضهما في سبيل تحقيق غايته السامية التي يلخّصها بيت شعر يقول فيه: فإما حياة تبعث الشرق ناهضاً/ فإما فناء وهو ما يرقب الغرب.

المساهمون