إعلان عن شخص مجهول الهوية!

04 يوليو 2024
رسم للفنان عماد حجاج
+ الخط -
اظهر الملخص
- درويش، الشخصية المحورية في رحلة النزوح المؤلمة، يحاول الحفاظ على ثباته على حافة صندوق شاحنة محملة بالنازحين، متمسكًا بفلسفته الخاصة وسيجارته التي تثير تساؤلات حول مصدر ماله.
- الرحلة تعكس الواقع المرير للنزوح والحرب، مع مشاهد متنوعة من العربات المحملة بالنساء والأطفال والباصات ذات العوادم الخانقة، مما يثير مشاعر الخجل والتضامن لدى الراوي.
- تأخذ القصة منعطفًا دراميًا بسقوط درويش من الشاحنة وفقدانه للذاكرة، مما يضع القراء وصديقه في حيرة حول حقيقته وهويته، ويتحول البحث عن ذاكرة درويش إلى رمز للبحث عن الهوية والوجود في ظل الحروب والنزوح.

جالسًا كان على الحافة اليسرى لصندوق الشاحنة كأنه غرضٌ من أغراض النزوح المحملة عليها، كأنه أي شيء ملقى في/على صندوق الشاحنة بلا اكتراث، كأنه الصندوق ذاته. وكان يحاول الحفاظ على ثبات جسده المتأرجح كتأرجح دخان سيجارته. هل اشترى السيجارة بخمسة وخمسين شيكلًا؟ ذلك المجنون؟ كيف حصل على المال؟ لا أعرف. أعرف أنه معدم ولا يملك من حطام الدنيا إلا لحيةً طويلةً مثل لحية داروين وفلسفةً خاصة في الحياة والكون وشيئًا من الشك في المسلّمات كلها، واسمَه الصوفيَّ العتيق (درويش).. هذا كل ما يملك.

كانت الشاحنة المحملة بالنازحين والأغراض تتهادى على الطريق الساحلي متجهة من رفح إلى المجهول، في نزوحٍ جماعي بدأ بعد احتلال الجيش الإسرائيلي معبر رفح. وكنت أنا خلف الشاحنة أحدق في نظرات الشباب الجالسين في صندوق الشاحنة بين الأغراض، وفي ذلك المجنون حامل شهادة الدكتوراه في الفلسفة.. الذي هو صديقي!

كنت أقود سيارة خاصة خلف الشاحنة ببطء يفرضه ازدحام الطريق، أحدق في درويش وأعرفه، وأعرف أنني أعرفه! لكنه كان يحدق في عينيَّ كأنه لا يعرفني. لوّحت له فظل يحدق فيّ ببرود كأنه جثة! هل كان هو حقًّا أم أنني أخطأت التقدير والذاكرة وتشخيص الوجوه بفعل الحرب؟ أم أنه هو الذي أخطأ التقدير؟ هل نسيني؟ هل كان غير قادر على رؤيتي؟؟ لكنه كان يحدق في عينيَّ مباشرةً ويتابع حركة وجهي بكل دقة.. كان يراني بإصرارٍ وترصُّد!

لا يملك من حطام الدنيا إلا لحيةً طويلةً مثل لحية داروين وفلسفةً خاصة في الحياة والكون

فصَلَت بيننا عربة كارو تحمل نساء وأطفالًا ويقودها فتى أرعن يهوي على ظهر الحصان بالسوط بسادية مطلقة وتمتعض على إثر ذلك شابة ثلاثينية شديدة الجمال وشديدة اتساخ القدمين جالسة شبه حافيةٍ على العربة وقد بدت تفاصيل جسدها من تحت (إسدال الصلاة) الذي ترتديه أغلب النساء خلال الحرب كأنه زيّ عسكري.. منظر يشدّ عيون بائعي (البسطات) على جانبي الطريق، فيحدقون في العربة حتى اختفائها في الأفق ويحلمون بملذات كثيرة كانت متاحة قبل الحرب وصارت الآن ضربًا من خيال. ثم اقتحم الطريقَ بيننا، خلف الكارو، باص يُصدر عوادم خانقة ناتجة عن احتراق (السيرج) الذي يستخدمه السائقون بديلًا من المحروقات التقليدية. أغلقت نافذة السيارة تجنبًا للعادم وفعّلت مكيف السيارة، هرب الباص من أمامنا فصرت في مواجهة الكارو مرةً أخرى.. خجلت من تحديق النسوة والأطفال في سيارتي المغلقة المكيَّفة.. وخجلت من نفسي أكثر!.. أطفأت التكييف وفتحت النافذة حتى أشاركهم الهواء ذاته والمعاناة ذاتها من جديد.

كان درويش في الأفق أمامي لم يزل مرئيًّا لي بحكم انخفاض مستوى الكارو الفاصلة بيننا وارتفاع الشاحنة، ولم يزل على برود نظرته غارقًا في سحاب السيجارة. قام بتغيير مكان جلسته بضع خطوات قريبًا من مؤخرة السيارة. لم أنتبه متى أو كيف غيّر جلسته، لكنه لم يزل محدقًا نحوي حتى اصطدمت الشاحنة بسيارة تسير أمامها وأسقطت درويش أرضًا.

درويش!.. دكتوراه الفلسفة من "جامعة ليدن" الهولندية وأطروحة عميقة في فلسفة زينون الرواقي.. حاول حينها أن يربط بين أصول زينون الفينيقية وبين هدوء فلسفته ونزعتها الزاهدة. كتب الرسالة بالهولندية وناقشها بالهولندية. وكنت بين الحضور حينذاك، ولأنني لم أفهم كلمة واحدة من هولنديته القوية فقد مللت وغادرت القاعة. هنأته بعد ذلك برسالة قصيرة فردّ تهنئتي بسيل جارف من الحب. كنت حينها في زيارة بحثية قصيرة إلى جامعته حينما التقيته بلحيته الطويلة حتى صدره وقامته القصيرة ووجهه السقراطي قليل الحظ من الوسامة.. كان يبدو لي عربيًّا فبادأته بالتعارف. لم يكن عربيًّا فقط، وإنما من غزة، يميل إلى الماركسية في غير غلوّ كالهولنديين ويفرض على نفسه قيودًا سلوكية يدّعي أنها نابعة من قناعات خاصة ولا علاقة لها بالتدين.

ثم إني التقيت درويش في غزة بعد ذلك عدة مرات. كان يشكو دومًا من أمرين: البطالة والواقع السياسي. بلغ الأربعين ولم يتزوج ولم يفكر في ذلك، اعتُقل عدة مرات في غزة وتعرض للتعذيب بسبب منشورات فيسبوك قيل إنها تخدش الحياء العام تارة وتهاجم الأعراف تارة وتثير الفتنة تارة!.. حياته البوهيمية الحرة كانت دائمًا تثير استغرابي، وغيرتي أحيانًا! وحينما كنت أمازحه بقولي "انت شو اللي جابك من هولندا؟"، معلقًا على عذاباته في غزة.. كان ينظر إليّ باستخفاف ولا يجيب، يسألني عن الأطفال والعمل ونتحدث قليلًا ثم يختم حديثه بمصافحة حارة تتخللها إجابة عابرة عن سؤالي الأول.. يقول "هالبلاد عندي بتسوى الدنيا كلها.. مش بس هولندا".. هكذا كأنه كان يؤجل الإجابة إلى حين انتهاء المحادثة حتى لا أناقشه. لم أمسكه يومًا متلبسًا بضحكة ولا بعبوس.. كان وجهه دومًا متعادل المزاج كهذه المدينة.

حينما اختل توازن درويش وسقط عن الشاحنة ثم فقد ذاكرته صرت لا أعرف إن كان حقًّا قد نسيني بفعل الحادثة أم أنه نسيني قبل ذلك، وإن كان هو حقًّا درويش أم أنه شخص يشبهه! لم يكن درويش يحمل هوية شخصية حينما نقلناه إلى المستشفى، ولم يكن أحد يعرفه، ولم يعرفه أحد حتى الآن.

اليوم هو الرابع بعد الحادثة. نشرت صورة درويش على صفحات التواصل الاجتماعي لعل أحدًا يتعرف إليه فلم يصلني رد من أحد، لم أرغب في كتابة اسمه تحت الصورة لأنني صرت أشك إن كان هو اسمه حقًّا.. صرت أشك في كل شيء. درويش لم يعطني أية أمارة على أنه درويش حينما كان فوق صندوق الشاحنة بكامل ذاكرته، درويش كان فاقد الذاكرة حينما كان بكامل ذاكرته! درويش فقد الذاكرة قبل أن يفقد الذاكرة! لعلّي أنا الذي فقدت الذاكرة؟ هل كان درويش حقًّا درويش؟ هل أنا حقًّا أنا؟ تساءلت كثيرًا إن كان أصحاب الفلسفات والعقول الكبيرة يفقدون توازنهم أسرع من غيرهم حينما يصعدون على صناديق الشاحنات نازحين في الحروب! تضيع عقولهم في الهوّة السحيقة بين الواقع الذي يريده لهم الوطن والواقع الذي يقذفون فيه، في تلك المساحة الضيقة من الوطن!.. تضيع عقولهم ويفقدون التركيز ويسقطون عن الشاحنات ويفقدون الذاكرة! بل يفقدون الذاكرة حتى قبل أن يسقطوا عن الشاحنات؟! من كان يعرف درويش فليخبرني.. من كان يعرفني فليخبرني.. من كان يعرف أي شيء عن حقيقة ما يجري.. فليخبرنا.


* شاعر وروائي من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون