حقوق الإنسان في مصر ورحلات الكذب

19 سبتمبر 2017
+ الخط -
يضيق الخناق في هذه الأيام على النظام الحاكم في مصر للسبب المعروف نفسه، وهو تراكم انتهاكات حقوق الإنسان وتزايدها، وتزايد حالات الاختفاء القسري والقتل خارج إطار القانون والأحكام القضائية المسيّسة. تتلاحق الاتهامات والتقارير الموثّقة عن مئات الحالات من الانتهاكات والتعذيب، عدا التقارير الدولية التي ترصد تردّي الأوضاع والهجمات على المجتمع المدني وإغلاق المجال العام.
يدافع النظام ويوزع الاتهامات يمينًا ويسارا. من ذلك، أخيرا، قرار الكونغرس خفض المعونات الأميركية المقدمة إلى مصر بمقدار 290 مليون دولار، فبدأ الصراخ والعويل وتكثيف الحديث عن خرافات المؤامرات وحروب الجيل الرابع والمخططات الغربية الأميركية لتقسيم العالم، وادّعى بعضهم أن الكونغرس مليء بالإخوان المسلمين وأن الرئيس دونالد ترامب محاط بهم.
بعد أيام صدر تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش عن حالات تعذيب موثّقة وشهادات لمعتقلين سابقين مفرج عنهم، لحالات تعذيب حدثت ولا تزال تحدث في السجون المصرية، وجاء التقرير على الممارسات الممنهجة للتعذيب، من أجل انتزاع الاعترافات والمعلومات، لو كانت معلومات غير حقيقية يضطر الضحية لقولها لوقف التعذيب بأي صورة. وناشدت "هيومان رايتس ووتش" في تقريرها رئيس الجمهورية والجهات المعنية ومجلس النواب والنيابة بإجراء تحقيق في تلك الوقائع من أجل تحقيق العدالة في مصر ووقف الظلم، وبدلا من أن تفتح الجهات المعنية تحقيقا في مصر عن وقائع التعذيب والاختفاء القسري والشكاوى المتكرّرة، قامت وزارة الخارجية بالنفي الهستيري ومهاجمة المنظمة، وشن مجلس النواب المصري هجوما خطابيا على المنظمة الحقوقية الدولية، مع إلقاء التهم المكررة عن تمويلها من قطر وتركيا والإخوان
المسلمين، وكيف أنها منظمة مشبوهة، تسعى إلى زعزعة الاستقرار وتدمير مصر وتقسيم المنطقة، وأن كل ما قيل غير صحيح، فلا يوجد تعذيب، والعدد المذكور مبالغ فيه.
يعرف الجميع كيفية اختيار أعضاء مجلس النواب ودور الأجهزة الأمنية في ذلك، ولذلك لا عجب أن يعلن رئيس لجنة حقوق الإنسان تحضيره لزيارة واشنطن من أجل مقابلة أعضاء الكونغرس ومراكز صنع القرار في الولايات المتحدة لإقناعهم بأن ما اشتمل عليه التقرير غير صحيح، وأنه لا يوجد تعذيب في مصر ولا يوجد معتقلون. وبالطبع، لن يستطيع عضو الائتلاف الذي شكلته أجهزة المخابرات في مصر أن يكرّر في الولايات المتحدة الخرافات نفسها التي يكرّرونها في البرلمان المصري عن المؤامرات الأميركية لتدمير الجيش المصري. وسيتودد النائب علاء عابد، وهو ضابط سابق متهم بارتكاب التعذيب عندما كان في الخدمة، لأعضاء الكونغرس ومراكز صنع القرار في الولايات المتحدة. سيقول لهم: أرجو أن تساعدونا، أيها الأصدقاء، في محاربتنا الإرهاب، أعطونا المال والسلاح والمساعدات بدون شروط، وبدون حديث عن التجاوزات والانتهاكات والتعذيب والظلم وقمع الحريات ووأْد الديمقراطية.. سيفعل هذا الرجل بالضبط مثلما يفعل رئيسه عبد الفتاح السيسي خلال زيارته الولايات المتحدة، عندما يتودد لصديقه ترامب ويطلب مساعدته.
لم تمر أيام قليلة حتى صدر تقرير المفوض السامي لحقوق الإنسان في جنيف، وكان أكثر سخونة وشمولا، فتحدث عن التضييق على أنشطة المجتمع المدني وعن الاختفاء القسري وعن السيطرة على وسائل الإعلام، وعن الإجراءات الانتقامية ضد ناشطين وصحفيين ومعارضين من جميع الاتجاهات، خصوصا جماعة الإخوان المسلمين التي يتعرض كل من ينتمي إليها للنسبة الأكبر للانتهاكات. ورد مندوب مصر في الأمم المتحدة بالردود المحفوظة نفسها، حيث الإنكار الدائم لكل الوقائع، ثم الدفاع بذريعة محاربة الإرهاب، وبالادعاءات أن تلك الانتقادات تدعم الإرهاب وتُضعف من جهود مصر لمحاربته، ثم الهجوم على المنظمات الحقوقية الدولية والمصرية ومصادر المعلومات، والذين شاركوا في التقرير، واتهامهم بأنهم يسعون إلى أهداف سياسية وتخريبية مدفوعة.
وقبل أيام، قدمت منظمات حقوقية دولية طلبا للإدارة الأميركية لحثّها على تطبيق قانون "غلوبال ماجنيتسكي"، وهو قانون تم تفعيله في العام 2016، بهدف تجميد أصول مسؤولين روس ومنْعهم من السفر إلى الولايات المتحدة، بعد مقتل المعارض الروسي سيرجي ماجنيتسكي في السجن عام 2009. وتم ذكر اسمي ضابط شرطة، هما اللواء محمد الخليصي واللواء محمد علي، وهما من كانا مسؤولين عن مباحث قطاع السجون. وكان الخليصي بمثابة نائب مساعد وزير الداخلية لقطاع مصلحة السجون في مصر، وتم ترقية الأول ليصبح مساعد وزير الداخلية وترقية الثاني ليصبح مدير أمن محافظة الإسماعيلية، مكافأة لهما على ما اقترفا من جرائم في عُرف الإنسانية، أو على ما فعلوه من إنجازات في عُرف وزارة الداخلية ونظام الحكم في مصر الذي ربما يستاء من ذكر أسماء قيادات شرطة تورطوا في تعذيب آلاف السجناء والمعتقلين وتكديرهم، وستبدأ نغمات الإنكار والدفاع الهستيري وإلقاء الاتهامات بالتآمر والتخابر، ولكن كل من دخل السجون المصرية يعلم جيدا من هما الخليصي ومحمد علي، وكل من مرّ على المعتقل يعلم جيدا أن ما جاء بالتقرير هو نسبة بسيطة من الحقيقة المفجعة الأكثر قبحًا.
يضيق الخناق وتتزايد الضغوط على النظام المصري، بسبب التمادي في الظلم والقمع وإرهاب مواطنيه، وتتوالى التقارير والإدانات الدولية التي تتحدث تفصيلا عما يتم ارتكابه من فظائع كل يوم. ولكن، هل يؤثر ذلك ويؤدي إلى مراجعات من داخل النظام، أو انفراجة أو كبْح رغبات أركانه في ممارسة القمع والتعذيب الممنهج؟

للأسف، لا يبدو أن هناك من هو متعقل داخل تلك المنظومة التي تحكم مصر. ولا يبدو أن هناك أي صوت ناصح من الداخل بوقف منظومة القمع والإجراءات الانتقامية والسجن والتعذيب أو تقليلها، ولو حتى من أجل تحسين صورة مصر، أو من أجل المصالح الاقتصادية والسياسية، فمنذ تولي السيسي السلطة، وهم يستخدمون أسلوب الرشوة السوداء، بشراء طائرات فرنسية وغواصات ألمانية وعقود اكتشافات غاز إيطالية ووساطات إسرائيلية وسعودية وإماراتية، ولا مانع من ابتزاز الولايات المتحدة بالتقارب مع روسيا، ثم ابتزاز روسيا عن طريق العودة إلى الولايات المتحدة، واستخدام ورقة مكافحة الإرهاب لابتزاز الجميع. وها هم يجهزون وفود البرلمانيين الكاذبين ليسافروا إلى الولايات المتحدة، ويلتقوا أعضاء في الكونغرس ليتحدثوا إليهم عن الإرهاب والأخطار، والعلاقات العميقة بين مصر والولايات المتحدة وأهمية التنسيق المشترك لمكافحة الإرهاب، وهو ما يتطلب عودة المساعدات الأميركية من دون الالتفات إلى المواضيع التافهة، مثل حقوق الإنسان والديمقراطية.
ولكن لو كان هناك عاقل داخل هذه المنظومة لنصحهم بأن احترام حقوق الإنسان سيوفر عليهم مصروفات سفر وفود الكذب والتضليل، وأن عودة الديمقراطية وفتح المجال العام وإنهاء المظالم والإفراج عن المظلومين في السجون المصرية، وإقامة حكم رشيد، هو ما سيحسّن صورة مصر وسيجلب الاستثمار ويدعم السياحة. ولكن يبدو أنه الغرور بالقوة، والعزّة بالإثم، واتساع مساحة الظلم وزيادة الفجوة وتضاعُف أعداد المتضرّرين، وهو ما يجعل أي محاولة من داخل النظام بالعودة أو تصحيح المسار، أو حتى الإصلاح الجزئي، ستكون شبه مستحيلة وذات تكلفة فادحة.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017