على الرغم من التقارير حول وفاة زعيم تنظيم "داعش" الإرهابي أبو بكر البغدادي، وتلك التي قالت إنّه أُصيب بجروح خطيرة وعاجز، كشفت صحيفة "واشنطن بوست" أنّ المسؤولين الأميركيين في مجال مكافحة الإرهاب مقتنعون بأنّ البغدادي على قيد الحياة.
وذكرت الصحيفة، في تقرير، السبت، أنّ البغدادي يساعد على توجيه استراتيجية طويلة الأمد للأعداد المتضائلة من مقاتلي "داعش" الذين يدافعون عن معاقل التنظيم المتبقية في شرق سورية.
وأشارت الصحيفة إلى أنّ وجهة النظر الأميركية هذه تدعمها تقاطعات المخابرات، واستجوابات المعتقلين، وكذلك الكتابات والتصريحات التي أدلى بها عملاء داخل شبكة التنظيم.
لكن المقابلات والتقارير تشير أيضاً، بحسب الصحيفة، إلى أنّ البغدادي قد حوّل اهتمامه، في الأشهر الأخيرة، إلى صياغة إطار أيديولوجي، ينجو من التدمير المادي للتنظيم في العراق وسورية.
وقالت الصحيفة إنّ البغدادي، بالإضافة إلى جهوده في تجديد المناهج المدرسية للتنظيم، يبدو أنّه كان وراء سلسلة من الرسائل، في الأشهر الأخيرة، سعت إلى تسوية الخلافات الأيديولوجية بين فصائل مقاتلي "داعش".
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أميركيين سابقين وحاليين قولهم إنّ هذه الإجراءات مجتمعة تنقل انطباعاً بتراجع "داعش" عن التنظيم المنضبط، بينما يساعد البغدادي في إدارة الاستعدادات للتحوّل من الخلافة، والتركيز على التمرّد السري، وقيادة حركة إرهاب دولية.
وفي هذا الإطار، قال نيكولاس راسموسين، الذي عمل مديراً للمركز الوطني لمكافحة الإرهاب قبل مغادرة منصبه في ديسمبر/ كانون الأول، للصحيفة، إنّه "حتى أثناء خسارتهم الموصل والرقة، كنا نرى مؤشرات على أنّهم كانوا يخططون للعمل من جديد، كمنظمة سرية"، مضيفاً أنّه "بينما كان يتم طردهم من هذه الأماكن، كانوا يخلفون وراءهم نوعاً من أساسات لبنية خلية".
وأكد ناشط، وصف نفسه بأنّه عميل لـ"داعش"، تواصلت معه "واشنطن بوست"، من خلال خدمة الرسائل المشفرة، هذه الاستراتيجية الأساسية، قائلاً إنّ "البغدادي، وهو بالأساس أستاذ جامعي، وكبار القادة الآخرين، قرروا، في وقت مبكر، إعطاء الأولوية لتلقين الأطفال والمجندين، سواء داخل العراق أو سورية أو خارجهما، عبر الإنترنت".
وأشار إلى أنّ "هذه الجهود باتت تتطلّب مزيداً من الإلحاح، بعدما أصبح من الواضح أنّ معقل التنظيم المطوّق لن ينجو"، على حد قوله.
وقال الناشط الذي وافق على إجراء المقابلة مع "واشنطن بوست"، بشرط عدم الكشف عن اسمه، إنّ "القيادة مقتنعة بأنّه حتى لو اختفت الدولة الإسلامية، طالما أنّها يمكن أن تؤثر على الجيل القادم من خلال التعليم، فإنّ فكرة الخلافة ستستمر".
وذكّرت الصحيفة أنّه منذ 4 يوليو/ تموز 2014، عندما دخل البغدادي إلى مسجد في الموصل للإعلان عن إقامة "الدولة الإسلامية"، كانت هناك تقارير زائفة حول وفاته، أكثر من وجود مشاهد مؤكدة أو تصريحات عامة له.
البغدادي على قيد الحياة
وأعادت الصحيفة إلى الأذهان التذكير بالتقارير الإعلامية، التي قالت إنّ البغدادي قُتل أو تعرّض لإصابات بالغة، أكثر من ست مرات، منذ عام 2014، وتلك التي ذكرت أنّه توفي، في ثلاثة تفجيرات جوية مختلفة، نفذتها الطائرات الحربية الروسية أو الأميركية، بينما زعمت تقارير أخرى بشكل مختلف أنّه تم اعتقاله من قبل قوات النظام السوري، وأُصيب بجروح قاتلة، في قصف مدفعي، أو جرى تسميمه.
وفي يونيو/ حزيران الماضي، بعد أن ادعى مسؤول روسي بأنّ موسكو كانت "متأكدة بنسبة 100 بالمائة" من موت البغدادي، عمدت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إلى التعجيل بالإشارة إلى عدم وجود أدلة مؤكدة.
وفي الآونة الأخيرة، أعرب المسؤولون الأميركيون، بحسب الصحيفة، عن ثقتهم بأنّ البغدادي نجا من هزيمة مجموعته في الموصل والرقة، وما زال نشطاً، على الرغم من أنّ مكانه الدقيق غير مؤكد.
وفي هذا الإطار، قال مسؤول أميركي في مكافحة الإرهاب، اشترط عدم ذكر اسمه، لمناقشة تقييم الاستخبارات، لـ"واشنطن بوست"، إنّه "وفق كل المؤشرات، فهو (البغدادي) على قيد الحياة. نعتقد أنّه ما زال ينسق، ولا يزال يساعد في إدارة التنظيم".
وقال المسؤول "أفضل تخمين لدينا هو أنّه لا يزال في سورية، في أحد الأجزاء المتبقية من البلاد التي لا يزال يسيطر عليها داعش".
وأشارت الصحيفة إلى أنّ تنظيم "داعش" عانى من سلسلة متواصلة من الهزائم العسكرية منذ أواخر 2015. ومع ذلك، طوال هذه الفترة، بقي زعيمه صامتاً، ولم يظهر على الملأ لحشد قواته، وأصدر في بعض الأحيان رسالة صوتية مشجعة تشجع قواته على القتال، لافتة إلى أنّ آخرها تعود إلى 28 سبتمبر/ أيلول 2017، أي قبل أسبوعين من سقوط الرقة.
التحضير للمستقبل
يرى بعض المراقبين، وفق الصحيفة، غياب البغدادي كجزء من استراتيجية متعمدة داخل تنظيم اختار، في السنوات الأخيرة، إلغاء تأكيد أهمية القادة الفرديين في الارتقاء بالمثل العليا للمجموعة.
وفي هذا الشأن، قال كول بونزيل، الباحث في شؤون الشرق الأوسط في جامعة "برينستون"، ورئيس تحرير "جهاديكا"، وهي مدونة علمية عن الحركة الجهادية العالمية، للصحيفة، "يقول الكثير من أنصار داعش إنّ البغدادي لا يريد أن يجعل من نفسه محور داعش. لقد كان هناك جهد، في الواقع، لعدم إعلاء أي شخصية فوق التنظيم".
ومع ذلك، فإنّ الاختفاء الظاهري للبغدادي، خلال صراع حاسم من أجل بقاء "داعش"، قد أثار الجدل داخل التنظيم نفسه، وفق الصحيفة، مشيرة إلى أنّ أعضاء من التنظيم في دير الزور نشروا، في الأسابيع الأخيرة، رسائل على وسائل التواصل الاجتماعي، يشكون فيها من أنّ البغدادي قد أزال نفسه من ميدان المعركة.
وعن ذلك، قال ستيفن ستالينسكي، المدير التنفيذي لمعهد أبحاث وسائل الإعلام في الشرق الأوسط، وهي منظمة غير ربحية في واشنطن تراقب مواقع الجهاديين على الإنترنت، لـ"واشنطن بوست"، إنّ "هذا يؤثر بوضوح على معنويات داعش ومؤيديه".
وقابل مؤيدون آخرون هذه الانتقادات بتجديد قسم الولاء للبغدادي، فيما وصفه ستالينسكي بأنّه "إشارة محتملة إلى أنّه (البغدادي)، يواجه، أو كان يواجه، تحديات لسلطته من الداخل".
ووفق الصحيفة، يبدو أنّ البغدادي، البالغ من العمر 46 عاماً، والمنحدر من مدينة سامراء العراقية، مستعد وقادر على التواصل عندما يحتاج إلى ذلك، على الأقل كما يبدو ذلك بالنسبة إلى قادته المتناثرين وكبار مساعديه.
وقد ذكر مسؤول في "داعش" تم إلقاء القبض عليه، وقاد لجنة المناهج، أنّه استُدعي مراراً وتكراراً من قبل البغدادي، لإجراء مناقشات جماعية حول التعليم والدعاية وغيرها من الأمور. والمسؤول المعتقل هذا هو واحد من خمسة مساعدين كبار، اعتقلوا، منذ فبراير/ شباط الماضي، في عمليات نفذها قادة عراقيون بمساعدة من الولايات المتحدة وتركيا، بحسب الصحيفة.
وقال راسموسن، المدير السابق للمركز الوطني لمكافحة الإرهاب، إنّ الحملة العسكرية البطيئة لكن الثابتة ضد "داعش"، أعطت البغدادي فرصاً كبيرة لتطوير خطوط التواصل الآمنة، والتحضير للمستقبل.
ومن المحتمل، وفق الصحيفة، أن تشمل هذه الاستعدادات التخطيط لعمليات إرهابية مستقبلية، وصقل نظام يضمن الاستمرارية، ونشر الأفكار الأساسية للتنظيم، بعد توقف "الدولة الإسلامية" عن الوجود كخلافة.
وقال راسموسن، في هذا الإطار، "كانوا يعلمون بأنّ هذا كان سيحدث. لم يكن الأمر كما لو أنّه كانت لديهم نظرية عن النصر، بأنّهم كانوا سيسيطرون على الموصل والرقة إلى الأبد".
وأضاف "لكن الخطاب الذي يشكل جزءاً من المشروع السني المتطرف، سواء كان تنظيم القاعدة أو داعش، هو أنّ العباءة سوف يتم التقاطها من قبل مجموعة أخرى من الجهات الفاعلة"، خاتماً بالقول إنّه "قد لا يكون المشروع مرتبطاً بالصراع السوري، لكنه لن يتلاشى فقط لأنّ داعش مهزوم في ساحة المعركة".
(إعداد: هناء نخال)