ولا تستطيع أن تميز سعيد الأستاذ عن السياسي، أو الإنسان اليومي؛ فاللكنة والأسلوب والطريقة ذاتها خلال إلقاء المحاضرات والدروس أمام طلبته في كلية الحقوق، وخلال تصريحاته التلفزية، ومخاطباته المحيطين به في حياته اليومية.
ولسعيد أسلوب تحليل مميز عن بقية الخبراء والمحللين من أبناء جيله أو الصاعدين، إذ تتراوح قراءته، المخالفة للمعهود والمتوقع، بين السرد السريع المسترسل للمعطيات والمعلومات الدسمة، وبين الدعابة القائمة على الاستشهاد بالعبر والاقتباسات التاريخية والمقولات الشهيرة.
وحظي سعيد بمكانة مميزة لدى التونسيين منذ قيام الثورة، وذاع صيته خلال الهزات الدستورية والأزمات التي رافقت سنوات كتابة الدستور، حتى باتت عباراته وتقليعاته محل استشهاد وإعجاب كبير وترديد ملفت من المتابعين، على غرار قولته "الدستور أكله الحمار وحتى الثورة أكلها الحمار".
وتشكّل حول سعيد، خلال السنوات الثماني الماضية، حزام من المعجبين، وشبكة من الشباب والمدونين الداعمين الذين يرون فيه الكفاءة القانونية، ونظافة اليد، والصدق والجدارة في الاضطلاع بمهمة رئيس الدولة، إلى جانب وفائه للثورة ولروحها ولشهدائها.
Facebook Post |
وبالرغم من تأكيده، في تصريحات إعلامية كثيرة بأنه "لا يرغب في الترشح.. ولا في الذهاب إلى الانتخاب"، إلا أنه ترشح للرئاسة مدفوعا من الشباب ومن طلبته ومعجبيه، وأكد في أول تعليقاته الصحافية، والذي كرره كثيرًا بعد ذلك، بأنه ترشح "مكرهًا"، وأنه لن يصوّت لنفسه، وبأنه مستقل غير مدعوم من أي حزب، لأنه يرى أن زمن الأحزاب السياسية "أفلس وولى وانتهى"، وأن السلطة الحقيقية "ستكون بيد الشعب الذي يقرر مصيره ويسطر خياراته"، مطلقا على منهجه وتوجهه الفكري "الانتقال الثوري الجديد".
وأظهرت مرحلة الترشحات شعبية ملفتة للرجل، فبالرغم من ضيق الوقت، تمكن سعيد من الترشح والعبور إلى المرحلة الانتخابية بعد أن استطاع أنصاره من الشباب جمع 7 آلاف تزكية مواطنية في محافظة القصرين وحدها في غضون 48 ساعة.
وعرف سعيد بصفة خبير القانون الدستوري، غير أنه لم يتمكن خلال مساره الأكاديمي الطويل حتى تقاعده، من نيل شهادة الدكتوراه أو بلوغ مرحلة التبريز التي كانت من بين أحلامه، إذ توقف تدرجه العلمي عند نيله شهادة الدراسات المعمقة في القانون الدولي من كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس في عام 1985، بعد أن حصل على الأستاذية في القانون الدولي العام، ثم نال دبلوم الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري بعدها بعام، ودبلوم المعهد الدولي للقانون الإنساني بسان ريمو في إيطاليا في 2001.
كان سعيد محبوبا بين طلبته ومعروفا باجتهاده واستقامته وتواضعه. بدأ حياته المهنية مدرساً بكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية والسياسية في سوسة سنة 1986، وانتقل للتدريس في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس سنة 1999.
وعمل الأستاذ سعيد مقرراً للجنتين الخاصتين لدى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية لإعداد مشروع تعديل ميثاق الجامعة، ولإعداد مشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية سنتي 1989 و1990، وخبيرا متعاونا مع المعهد العربي لحقوق الإنسان من سنة 1993 إلى سنة 1995.
كما شغل عضوية المجلس العلمي ومجلس إدارة الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري منذ سنة 1997، وكذلك رئيس مركز تونس للقانون الدستوري من أجل الديمقراطية.
ويقدم سعيد نفسه على أنه مستقل عن الأحزاب السياسية، بل عبّر عن رفضه التحالف مع أي حزب سياسي، مؤكدا في غالبية تصريحاته أنه سيحافظ على استقلاليته. وعن دعم حزب النهضة له، قال سعيد إنه "ليس عصفور النهضة النادر، وبأن الوحي نزل في غار حراء، وليس في مونبليزير"، كناية عن مقر حزب النهضة.
وبالرغم من تأكيده رفض التحزب، تناقل خصوم سعيد بنقد لاذع صورا ظهر فيها العام الماضي خلال مقابلة مع ممثل حزب التحرير، رضا بلحاج، ذي المرجعية السلفية المتشددة والذي لا يعترف بالدولة ولا بالدستور ولا بالانتخابات، ما جعل بعضهم يصفه بممثل المتشددين من الإسلاميين في السباق الرئاسي.
إلا أن مواقفه المعلنة تنطوي على دعوة إلى تحقيق مقاصد الشريعة، وعلى فكر متأصل في الهوية العربية الإسلامية. كان ذلك أيضًا محل انتقاد لاذع من المنظمات الحقوقية، إذ يعتبر سعيد أنه لا يوجد ما يسمّى "دولةً مدنية، أو دينية"، بل هناك "حكومة مدنية، وحكومة دينية"، مشددا على أنه "لا يمكن للدولة أن تملك دينا"، وأن الفصل الأول من الدستور الذي يحدد دين الدولة هو "إضافة يهودية لدساتير العالم العربي"، ومن هنا تنبع دعوته لأن تعمل الدولة على "تحقيق مقاصد الشريعة".
كما يرفض سعيد بوضوح، وبشدة، فكرة المساواة في الميراث بين المرأة والرجل، إذ أكد مرارا أنه "لن يقوم بتأويل نص قرآني صريح" قائلًا: "إن المسألة محسومة بالنص القرآني، وهو واضح وصريح ولا يحتاج للتأويل ولا للاجتهاد.. فنحن لسنا ضيعة ولا بستانًا، بل دولة"، وهو ما يستند إليه دائما للتعبير عن معارضته لمشروع قانون المساواة في الإرث الذي قدمه الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي.
ويؤيد قيس سعيد إنفاذ عقوبة الإعدام، رغم المساعي الدولية والحقوقية لإلغائها في تونس، بل ويشدد على ضرورة تطبيقها في عدد من الحالات التي تحتاج ردعا شديدا، كما يعتبر سعيد أن "المثليين يحصلون على تمويل من الخارج لإفساد الأمة الإسلامية"، كما يتعهد بـ"حل الجمعيات" إذا وصل إلى السلطة، معربا عن رفضه العمل الجمعياتي.
وتناقلت مواقع التواصل الاجتماعي، بإعجاب شديد، صعود سعيد إلى الدور الثاني من دون حملة انتخابية مكلفة، وبإنفاق محدود، مقارنة بما سخّره منافسوه من إمكانيات مالية ضخمة، مشددين على أن سعيد دفع 750 دينارا فقط من حجم الضمان المالي المقدر بـ10 آلاف دينار، في وقت تكفل أنصاره بجمع بقية المبلغ.
ولفت سعيد، في حوار صحافي، بأنه لا يقبل أي دعم مالي من أي شخص أو جهة كانت، رافضًا حتى مبدأ التمويل العمومي، "حتى لا يكون رهين أي جهة كانت من ناحية مالية أو سياسية". على حد وصفه.
وقام البرنامج الانتخابي لقيس سعيد على شعار الثورة "الشعب يريد"، حيث تعهد خلال الحملة الانتخابية بإدخال تعديلات على الدستور "ليكون البناء الدستوري قاعديًا"، رغم معرفته بإجراءات التعديل الدستوري، وعدم امتلاكه حزبا سياسيا أو كتلة برلمانية تمكّنه من ذلك، حيث يحتاج الأمر إلى تصويت ثلثي اعضاء البرلمان (145 صوتا).
ويرى قيس سعيد بأن الشعب نفسه هو من يجب أن يضع الخطط والاستراتيجيات الفكرية والاقتصادية التي تحرك الوطن بعد الثورة، وليس العكس.
وفي السياسة الخارجية، اعتبر سعيد، في حوار صحافي، أن "القوى الخارجية عملت على القضاء على فكرة الأمة سابقا، واليوم حينما اندلعت الثورات العربية حاولت القوى الاستعمارية ضرب الدول من الداخل، خوفا من الشباب العرب القادرين على الإبداع، وحتى تصبح لهم أنظمة على مقاسهم وحارسة للمصالح الغربية كما حصل في ليبيا وسورية واليمن وغيرها".
ويرى المرشّح الرئاسي أن "قضايا الهوية والدين التي زرعوها داخل الدول الثائرة هي لتشتيت أبناء الوطن الواحد، ففي تونس مثلا، الشعب التونسي مسلم بطبعه وليس بناء على الفصل الأول من الدستور، والشعب قال أريد حقي فقيل له لننظر في هويتك أولا، والاستعمار لا يتسلل إلى الدول العربية عبر الحدود بل يتسلل عبر عملائه بالداخل".
وأكد أن سياسته الخارجية هي "الامتداد الطبيعي لتونس في محيطها الطبيعي مع الدول العربية ومحيطها الطبيعي مع أوروبا، أي دول شمال البحر المتوسط، ولا يمكن أن ننكر التاريخ، لكن كما هم لديهم مصالح فلنا أيضا مصالح، وليست شعوبهم أفضل من شعوبنا، ويجب أن يرفعوا أيديهم عن ثرواتنا، فقد حان الوقت لنبني علاقات جديدة قائمة على الاحترام المتبادل والتعايش بين الشعوب، فليس هناك ترتيب تفاضلي لشعب على آخر".
وحول إشراك بشار الأسد في القمة العربية الماضية، اعتبره سعيد "خدمة لمصالح إقليمية ومصالح أخرى"، ويقدّر أن "التدخل وقع لا لإسقاط الحكم بل لإسقاط الدولة، والقضية السورية هي للشعب السوري"، بحسب رأيه.