هكذا تغذي الممارسات الإسرائيلية توجهات المحكمة الجنائية الدولية

23 ديسمبر 2019
توفر ممارسات إسرائيل الحجج للمحكمة الجنائية (حازم بدر/فرانس برس)
+ الخط -
في الوقت الذي ردّت فيه دولة الاحتلال على إعلان المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، فاتو بنسودا، بشأن دعوتها إلى التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية، بالقول إنّ المحكمة لا تملك صلاحية البتّ في الطلب الفلسطيني، باعتبار أن السلطة الفلسطينية ليست دولة كاملة السيادة، وأنّ المحكمة مخوّلة بصلاحيات البتّ في طلب دول مستقلة كاملة السيادة، وفق الرأي القانوني الذي أصدره المستشار القضائي لحكومة الاحتلال، أفيحاي مندلبليت، يوم الجمعة الماضي، قال الخبير القانوني الإسرائيلي، أستاذ القانون في الجامعة العبرية، مردخاي كرمنيتسر، في تحليل قانوني نُشر في صحيفة "هآرتس" أمس الأحد: "وإن كان لا يزال من المبكر استباق الأمور بشأن صلاحية المحكمة الجنائية الدولية على الضفة الغربية وقطاع غزة، وفقاً لما طلبت بنسودا تحديده من المحكمة التمهيدية، فإنّ من المهم في الوقت ذاته التعمّق بالطعون الفلسطينية التي ستطرح أمام المحكمة، وفي الردّ الإسرائيلي على هذه الطعون".

وبحسب كرمنيتسر، فإنّ الممارسات الإسرائيلية هي التي تستدعي تدخّل المحكمة الجنائية، خصوصاً في ظلّ الوضع السياسي وحالة انعدام المفاوضات من جهة، ومن جهة أخرى مسألة شرط وجود الدولة الفلسطينية وتعريف حدودها، وبالتالي تحديد اختصاص المحكمة الجنائية بشأنها، ولا سيما أنّ القانون الدولي ينصّ على أنّ للمحكمة الجنائية الحقّ في التحقيق في جرائم وقعت داخل حدود دولة عضو في المحكمة ووقّعت على معاهدة روما.

وبحسب كرمنيتسر، ستبتّ المحكمة أولاً في مسألة تعريف مصطلح "دولة" الذي اعتُمد لتأصيل صلاحيات المحكمة، وما إذا كان يتماثل مع السياق الأوسع للقانون الدولي في كل ما يختص بهذا المصطلح. وفي حال اعتماد المصطلح في سياقه الأوسع، ستكون إسرائيل هي الرابحة، لأنّ المقياس الأساسي لتعريف الدولة هو السيطرة النافذة على أرض كتجسيد لسيادتها عليها.

ويوضح كرمنيتسر أنّه في مثل هذه الحالة، فإنّ الدولة الفلسطينية عموماً ليست كياناً قضائياً (قانونياً) قائماً على أرض الواقع، والدليل على ذلك أنّ السلطة الفلسطينية تقول إنها دولة، وفي الوقت نفسه وبالتوازي تقول إنها واقعة تحت الاحتلال، أي تحت السيطرة الفعلية لإسرائيل، وفق الموقف الذي أصدره المستشار القضائي للحكومة أفيحاي مندلبليت. لكن مصير قطاع غزة سيكون مخالفاً، لأنّ إسرائيل أعلنت أنها لا تملك سيطرة فعلية فيه، بل (حركة) حماس هي صاحبة السلطة هناك.

مع ذلك، توقّع كرمنيتسر أنّ تتبنى المحكمة الجنائية مصطلحاً ذا دلالة مغايرة، خصوصاً في ما يتعلّق باختصاصها (صلاحياتها للبت في ملف فلسطين)، أي إنّ للمحكمة صلاحية ليس فقط على الدول الكاملة، وإنما القول إنّ مصطلح الدولة يشمل أيضاً "الدول التي في طريقها للتكوّن"، على غرار حالة الاستيطان اليهودي في فلسطين قبل إقامة إسرائيل. وإذا اتجهت المحكمة نحو هذا الاعتبار، فبالتأكيد سيؤخَذ بالحسبان الدلالات المتعلقة بالمكانة الدولية للسلطة الفلسطينية، ومن ضمن ذلك مسألة الاعتراف الدولي بدولة فلسطين من قبل عدد غير قليل من الدول، وقبول فلسطين عضواً في منظمة "اليونسكو"، وقرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 67/19 لعام 2012، بالاعتراف بفلسطين دولةً مراقبة غير عضو، وأيضاً انضمام فلسطين إلى معاهدة روما التي أسّست لنشاط المحكمة الجنائية.

وخلافاً للموقف الإسرائيلي الرسمي، بأنّ مصدر صلاحيات المحكمة الجنائية هو فقط من الدول الأعضاء فيها، يوضح كرمنيتسر أنه يمكن اعتماد فرضية أخرى ترى المحكمة الدولية بموجبها مصدراً لصلاحياتها، وأولها من المجتمع الدولي ورغبته في منع جرائم الحرب، كما يتضح في مقدمة معاهدة روما، ومن صلاحية مجلس الأمن الدولي بإحالة قضايا على المحكمة الجنائية للتحقيق فيها.

ولعلّ أبرز ما يشير إليه الخبير القانوني الإسرائيلي في سياق صلاحيات المحكمة الجنائية والتناقض في الموقف الرسمي القانوني الذي وضعه مستشار الحكومة الإسرائيلية، قرار دولة الاحتلال بعدم المصادقة مجدداً على معاهدة روما بعد أن كانت قد وقعت عليها، على الرغم من أنه كان لدولة الاحتلال التزام أخلاقي من الدرجة الأولى في هذا المضمار لدعم إقامة المحكمة الجنائية بسبب الجرائم التي نفّذت ضدّ الشعب اليهودي، وفي مقدمتها الإبادة خلال العهد النازي.

ويرى كرمنيتسر أنّ محاولات حكومة الاحتلال وصم إعلان المدعية العامة بأنه سعي لتسييس المحكمة، من دون التطرق إلى الحظر القائم وفق القانون الدولي، بشأن منع دولة محتلة من نقل مواطنيها للعيش على أراضٍ احتلتها، وما تبع ذلك من ممارسات، كتورط إسرائيل كلياً في مشروع الاستيطان مع كل ما يتصل به من عدم تحقيق نظام حكم متساوٍ بين سكان دولة الاحتلال والواقعين تحت الاحتلال، ومنع أي احتمال لتسوية سياسية، كل ذلك يؤكّد سعياً عملياً لإخفاء حقيقة الاحتلال. فلا يمكن أيّ "محامٍ"، مهما كان بارعاً، تصحيح ممارسات الزبون أو الدفاع عن إسرائيل بكل ثمن، في الوقت الذي تشكّل فيه هذه الممارسات عملياً العقبة الرئيسية أمام التوصّل إلى تسوية سياسية. ومن ضمن هذه الممارسات مواصلة الاستيلاء على الأرض الفلسطينية وتصويرها وكأنها أراضي الوطن، وليست أرضاً تمت السيطرة عليها بالقوة العسكرية.

ويلفت كرمنيتسر إلى أنّ الرأي القانوني الذي يطرحه مستشار حكومة الاحتلال، يناقض في البند 26، التوجّه العالمي بشأن اعتماد فكرة حلّ الدولتين، إذ يفهم من البند المذكور أنّ تحقيق المصير للفلسطينيين لا يعني بالضرورة إقامة دولة.

ويشير الخبير الإسرائيلي إلى أنّ حكومة الاحتلال والكنيست، على مدار السنوات الأخيرة، ومنذ تشريع قانون شرعنة الاستيطان قبل ثلاثة أعوام، وعلى الرغم من معارضة المستشار القضائي لحكومة الاحتلال للقانون المذكور، "قد تنازلت عن الموقف الإسرائيلي المعلن بأنّ المستوطنات ومشروع الاستيطان، كان مؤقتاً ومبادرة من المستوطنين أنفسهم، وأقرّت بدلاً من ذلك بأنّ مشروع الاستيطان برمته، هو مشروع الدولة نفسها، الأمر الذي يعني عملياً توفير الذخيرة للمحكمة الجنائية الدولية".

فمنذ صعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الحكم، في الولايات المتحدة، لا تتوقّف حكومة إسرائيل، بشكل استعلائي، عن توزيع التصريحات المناقضة لمواقفها أمام المحكمة العليا والعالم، بأنّ الاستيطان مؤقت، وهي تؤكد اليوم أنّ الحديث هو عن مستوطنات ستبقى للأبد، لا بل إنها تزيد في الحديث عن عزمها على ضمّ مجمل هذه المستوطنات، القانونية منها وغير القانونية، ومناطق أخرى إلى دولة إسرائيل.

ويصل كرمنيتسر إلى القول إنه صحيح أنّ مسألة اختصاص المحكمة لم تحسم بعد، إلا أنّ من الصعب تصوّر عدم تطرّق المدعية العامة إلى ممارسات إسرائيل ونشاطها في الأراضي الفلسطينية. وفي هذا السياق، من الواضح أنّ حكومة إسرائيل تقوم تقريباً بكل ما يستدعي تدخلاً قضائياً دولياً في ممارساتها، لأنه لن يكون ممكناً تجاهل سجلّ إسرائيل في كل ما يتعلّق بتعاملها ومعالجتها وبمبادرتها هي بشبهات ارتكاب جرائم بحق فلسطينيين. إذ سيكون من الصعب نسيان التعامل المعيب للمستوى السياسي الإسرائيلي مع قضية قتل عبد الفتاح الشريف على يد الجندي أليؤور أزاريا، عندما قام الأخير بإعدام الشهيد الشريف بإطلاق رصاصة باتجاه رأسه بعد أن كان مصاباً على الأرض، في مدينة الخليل في مارس/ آذار عام 2015. كذلك سيكون من الصعب تجاهل حملة جهاز القضاء وتطبيق القانون، التي وصمت المستشار القضائي للحكومة بأنه أضعف من مواجهة المدعي العام شاي نيتسان، وبالتالي لا يمكن الركون إلى قدرته في معالجة قضايا وشكاوى بشأن ارتكاب جرائم حرب.

وخلص كرمنيتسر إلى القول إنه إذا قرّرت الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية أنّ الأخيرة لا تملك صلاحية البتّ في شكاوى الفلسطينيين، فسيكون ذلك فقط لكون فلسطين ليست دولة، وليس بفعل حقيقة ممارسات حكومة إسرائيل وسلوكها، على الرغم من هذا السلوك وهذه الممارسات.

المساهمون