الجزائر: صدمة النفط

11 مارس 2020
لم تخرج البلاد من اقتصاد الريع النفطي(فاروق بطيش/فرانس برس)
+ الخط -


"انتهى البترول ولم تعد آباره إلا جزءاً من ماضي قد ولّى"، هذا مشهد سينمائي لنشرة أخبار عاجلة قرأتها مقدمة الأخبار الشهيرة في التلفزيون الجزائري في الثمانينات، زهية بن عروس (الجزائريون اعتقدوا أن الأمر حقيقة)، دسه المخرج محمد حلمي في فيلمه الشهير "ما بعد البترول"، الذي أُنتج عام 1986. كان ذلك الفيلم بكل مشاهده الدرامية التي تصوّر إفلاساً سياسياً واقتصادياً ومالياً وبؤساً اجتماعياً، ورسائله السياسية، رؤية سينمائية استباقية لأزمة بلد غرق في برميل نفط ونام على عائداته الريعية وأهملت سياسات حكوماته المتعاقبة كل مقدرات الإنتاج الأخرى، خصوصاً الزراعة في بلد زراعي بامتياز.

لم يمر وقت طويل على الفيلم حتى تحوّلت مشاهده إلى حقيقة، إذ لا ينسى الجزائريون ما فعلته بهم الصدمة النفطية عام 1986، عندما نزلت أسعار النفط إلى ما دون التسعة دولارات، فأفلست الخزينة، وخوت حينها رفوف المحلات، وندرت المواد التموينية وباتت الطوابير على الخبز تبدأ في الرابعة فجراً، وفي صفوف لا تنتهي أمام أسواق الفلاح (محلات حكومية تم حلها لاحقاً) للحصول على الزيت والقهوة والسكر. كانت تلك الأزمة الاقتصادية جزءاً من مقدمة طويلة عريضة لانتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988.

تدخل الجزائر الآن أزمة نفط شبيهة بعد انهيار أسعار برميل الخام خلال الأيام الأخيرة إلى ما دون 30 دولاراً للبرميل، وتآكل احتياطي الخزينة العامة، لتبدو البلاد على حافة صدمة اقتصادية حقيقية ستكون لها تداعيات اجتماعية لامحالة، لم تدّبر لها الحكومة الجديدة ما يسعف البلد لمواجهة هذه التداعيات، فقد ضيّعت على البلد فرصة إقلاع اقتصادي حقيقي وتطوير نوعي لكل القطاعات الإنتاجية والإفلات من فكي اقتصاد الريع النفطي قبل سنوات، عندما أهدرت 980 مليار دولار أميركي خلال عقدين، من دون أن تحقق نسبة نمو موازنة لهذا الحجم من الإنفاق (لم تتجاوز 2 في المائة) ولم تحقق اكتفاءً ذاتياً في أي من المواد التموينية نتيجة سوء التدبير والفساد.

ثمة حقيقة مؤلمة في الجزائر، وهي أن عدداً ليس بالقليل من الخبراء الاقتصاديين وقطاعات هامة من المنتظم السياسي، كانوا ينذرون الحكومة استباقياً ومنذ عام 2012 بتوجّه البلاد إلى مخاطر أزمة حادة مستقبلاً ما بعد البحبوحة المالية، ويحذرون من عواقب إهدار المال العام في شراء السلم الاجتماعي وزيادة الإنفاق غير الرشيد على برامج غير منتجة. لكن هذه الأصوات لم يكن أحد يريد الإنصات إليها والأخذ بتحذيراتها، بل إن وسائل التضليل والدعاية شنّت عليها حملة قاسية وعنيفة. والعدو الأول للشعوب ليس الحكومات الفاسدة فحسب، بل التضليل، وكل من مارس التضليل السياسي والإعلامي في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة هو لامحالة شريك في منتجات الخراب وجزء من شبكة الحكم الفاسد.

مرّ على الجزائر درس الأزمة الأولى عام 1986، لكنها لم تكن صدمة كافية، ومرّ درس ثان بعد عشريتين من الفساد والتبذير في عهد بوتفليقة، فلربما تكون الأزمة الجديدة من الصدمة ما يدفع الجزائريين للعودة إلى الأرض، إلى الزراعة والسياحة والصيد واستثمار مكنونات أخرى في البلاد غير ما في بطن الأرض، والتفكير في خلق نسق جديد من الاقتصاد يقوم على المعرفة والاستشراف وحسن التدبير.
دلالات
المساهمون