يصعب مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أحياناً، تناول مسألة بحجم "مذبحة التطهير" التي يقودها منذ شهر إبريل/ نيسان الماضي، وتطاول المفتشين العامين الفيدراليين، في إطارها العميق، والذي يتخطى شخص ترامب وميوله لاحتجاز السلطتين التنفيذية والتشريعية "تحت إبطه". في موقع "لوفيربلوغ"، المعني بمتابعة الشؤون القضائية والقانونية في الولايات المتحدة، يكتب بنجامين ويتس، في الثامن من إبريل، أن طرد خمسة، أو ستة، أو سبعة مفتشين عامين، تقع على عاتقهم مراقبة العمل الفيدرالي ووقف الهدر والسرقة والفساد في المرافق الحكومية، من قبل رئيسٍ أميركي، ولأسبابٍ ترتبط بمصالحه الشخصية، كان ليُحدث ضجةً سياسية كبرى لو أنه حصل في بداية عهد ترامب. لكن بعد أكثر من ثلاث سنوات أمضاها رجل الأعمال النيويوركي في البيت الأبيض، فإن أسباباً عدة تقف وراء عدم وضع حملة التطهير هذه في خانة "الفضيحة الوطنية". أولاً، إن فيروس كورونا "قد أطاح بكل الهواء في الغرفة"، بحسب تعبيره، ما يعني اتكال ترامب على الانشغال الوطني بالوباء، للاستفراد بمساحة عمل سياسية، كانت لتكون أصعب له قبل أشهرٍ قليلة. أما السبب الثاني، برأيه، فهو أن مسلسل طرد المفتشين العامين لم يحدث صدمة سياسية، فقط "لأننا اعتدنا على ذلك من ترامب". أما السبب الثالث، فهو انقسام الكونغرس بين الجمهوريين والديمقراطيين، الذي يجعل من أي محاسبة للرئيس مسألة شبه مستحيلة.
وتستعيد الصحافة الأميركية، منذ أيام، ما يمكن وصفه بـ"ذكريات الزمن الجميل"، حين أحدثت "مجزرة ليلة السبت"، في عهد الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، ضجّةً سياسية كبرى، قد يكون من تبعاتها إحداثُ وظيفة "المفتش العام الفيدرالي"، والتي يبلغ عدد المكلفين بمهماتها اليوم 74 مفتشاً عاماً، موزعين داخل دوائر الحكومة. فمساء الـ20 من أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وقع ما يوصف بأحد أهم المنعطفات الدراماتيكية في إطار فضيحة "ووترغيت"، حين أقدم نيكسون، مُصّراً على رفض رفع السرّية عن تسجيلات محادثات البيت الأبيض، على طرد المدعي العام الخاص بالفضيحة، أرشيبولد كوكس، ما دفع وزير العدل حينها إليوت ريتشاردسون ونائبه ويليام روكلشوس لتقديم استقالتيهما اعتراضاً.
هذا الفصل، الذي يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، لا يربطه المؤرخون أو المتابعون لعهد ترامب بحملة التطهير التي تطاول أخيراً المفتشين العامين من قبل الإدارة الأميركية، والتي تقابل بصمت جمهوري في الكونغرس، السلطة الوحيدة القادرة فعلياً على الاعتراض وقلب الطاولة. هؤلاء يستعيدون كذلك، أوائل أيام ترامب في البيت الأبيض، حين طرد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي من منصبه، في مايو/ أيار 2017، ليكون ثاني رئيس فقط في تاريخ الولايات المتحدة، بعد بيل كلينتون، يطيح بمديرٍ لـ"إف بي آي". حينها، برّر ترامب الخطوة، بسوء إدارة كومي لملف بريد وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، والتي هزمها ترامب في رئاسيات 2016. لكن الحقيقة، التي أحدثت ضجّة في الكونغرس وقادت إلى استجواب الإدارة حول أسباب الطرد، هي أن كومي كان قد وصل إلى مراحل حسّاسة في التحقيق الذي يقوده بشأن التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة، وارتباط فريق حملة ترامب بها.
ومع ذلك، تبدو حملة ترامب على المفتشين العامين اليوم أكثر تقويضاً لمقومات العمل الإداري والحكومي التقليدي في الولايات المتحدة، وأكثر اقتراباً من ممارسات أنظمة ديكتاتورية، لطالما أبدى سلوكه تشابهاً معها. أولاً، يعمل ترامب، في أبسط التفسيرات، عبر طرد المفتشين العامين واستبدالهم بآخرين أكثر ولاءً له، بذهنية انتقامية صرفة من سلفه باراك أوباما، الذي كان قد عيّن الكثير من المطرودين اليوم خلال ولايتيه الرئاسيتين. كذلك يستغل الرئيس جائحة كورونا، لاستكمال حربه على ما يسميها "الدولة العميقة"، والتي يعتبر أن المفتشين العامين، الذين يبدي ترامب الكثير من الازدراء لعملهم، تابعين لها. وبناءً عليه، فهو يتصرف ثالثاً، في جزء منه، لكبح أي تحقيق جديد محتمل قد يفتح ضده خلال فترة "الوقت الضائع"، وفي مرحلة حسّاسة من حملته الانتخابية، التي تتراجع بفعل التقصير في إدارة ملف كورونا، والانكماش الاقتصادي، وارتفاع البطالة، مع عدم تحقيق أي إنجاز خارجي يُذكر. أما الأخطر، فهو ما تكشف عنه الصحافة، وأثار غضب الديمقراطيين، والمرتبط بتعيين ترامب مفتشين بدلاء، مع الإبقاء على وظائفهم السياسية داخل الوزارات والإدارات التي من المفترض عليهم مراقبتها، ما يضعه المعارضون في خانة "تضارب المصالح".
وفي آخر مسلسل حملة التطهير، عيّن ترامب في 17 مايو/ أيار الحالي، هوارد سكيب إليوت، مفتشاً عاماً للتحقيق في الهدر واستغلال السلطة داخل وزارة النقل، مع احتفاظ الأخير بمنصبه كمسؤولٍ عن أحد القطاعات الرئيسية داخل الوزارة، ما يعني أن إليوت أصبح مديراً لمنصب مهمته مراقبة سلوكه في وظيفته الأخرى. وتخضع دائرة سلامة أنابيب النفط والمواد الخطرة في الوزارة، والتي يديرها إليوت منذ العام 2018، للمراقبة من قبل المفتش العام، أما رئيسته، فهي وزيرة النقل إيلين تشاو، التي طلب ديمقراطيو الكونغرس التحقيق بشأن اتهامات لها باستغلال السلطة لحساب زوجها، زعيم الأكثرية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل. وليس واضحاً ما إذا كان هذا التحقيق سيُستكمل مع إليوت، وإلى ماذا سيتنهي.
ويُعد طرد المفتش العام في الوزارة ميتش بيم، وتعيين إليوت مكانه، الخامس خلال شهرين، في إطار حملة التطهير هذه، والتي تستهدف مفتشين عامين يقول ترامب إنه غير راضٍ عن سلوكهم، مع استبدالهم بآخرين أكثر ولاءً، بحسب مراجعة سير هؤلاء الذاتية. وهذه هي المرة الأولى الذي يجد فيها المفتشون العامون في الولايات المتحدة، منذ إحداث هذا المنصب (1978)، في عهد جيمي كارتر إثر فضيحة "ووترغيت"، أنفسهم تحت وطأة هجوم ممنهج من الرئاسة، ما يجعل هذا القطاع الرقابي في خطر، تزامناً مع تخصيص الكونغرس تريليوني دولار للحكومة، في إطار مواجهة تداعيات كورونا. وطرد بعض المفتشين العامين من دون إبلاغات مسبقة، وجرى حرمانهم من الوصول لبريدهم الإلكتروني وملفاتهم، منذ لحظة الإبلاغ، فيما ينتظر بعض البدلاء موافقة الكونغرس عليهم، بينما لا يملكون المؤهلات الكافية لتولي مناصبهم. هذا الواقع الجديد يضع قطاعاً واسعاً من العمل الفيدرالي في حالة فوضى، بينما يرى متابعون أن نظاماً عمره 40 عاماً من الرقابة المستقلة لعمل السلطة التنفيذية، قد دخل فعلياً مرحلة الخطر. في المقابل، يلقى سلوك ترامب صمتاً، وحتى دفاعاً من وزير العدل ويليام بار.
وكان ترامب قد دان علناً قيام المفتش العام لمجتمع الاستخبارات الأميركية مايكل أتكينسون بتنبيه الكونغرس بشأن شكوى لـ"مبلغ سرّي"، أطلقت معركة عزل الرئيس نهاية العام الماضي، في إطار ما بات يعرف بفضيحة أوكرانيا، التي يتهم فيها الرئيس بالضغط على كييف لفتح تحقيق في تهم فساد محتمل، متورط فيها هانتر بايدن، نجل منافس ترامب في رئاسيات 2020، جو بايدن. وطرد ترامب أتكينسون، الذي كان عيّنه هو بنفسه، في إبريل الماضي. بعدها بأيام قليلة، أقدم ترامب على طرد رئيس مجلس مراقبة صرف ميزانية طوارئ كورونا غلين فاين. وبعدها بثلاثة أسابيع، أطاح الرئيس بالمفتشة العامة في وزارة الصحة كريستي غريم، لإصدارها تقريراً كشف معاناة المستشفيات الأميركية للحصول على المستلزمات الأساسية في مواجهة تفشي الجائحة. والأسبوع الماضي، طرد ترامب المفتش العام في وزارة الخارجية ستيف لينيك، الذي كان على ما يبدو يدير تحقيقاً في ممارساتٍ لوزير الخارجية مايك بومبيو ترقى إلى استغلال السلطة لأغراض شخصية، وعيّن مكانه الموظف المقرب من نائبه مايك بنس، ستيفن أكار.
ويقود المفتشون العامون في الولايات المتحدة، والبالغ عددهم 74 مفتشاً، فرقاً ضخمة مؤلفة من حوالي 14 ألف مدقق ومحقق، ويملكون سلطات واسعة، من التدقيق اليومي الروتيني، وصولاً إلى مراقبة الإنفاق الحكومي، وحتى متابعة "نشاطات جرمية". 38 من هؤلاء يُعيّنهم الرئيس، ويحتاجون، ما عدا المفتش العام الخاص بإعادة إعمار أفغانستان، إلى موافقة الكونغرس، وهم يعملون بمدد عمل مفتوحة. ويستطيع الرئيس إقالة مفتش عام وافق عليه الكونغرس، لكن عليه إعلام السلطة التشريعية بذلك وتوفير شرح للأسباب قبل الإقالة بـ30 يوماً، علماً أن هذا الإجراء وضع في العام 2008 لحماية المفتشين العامين، ولم يلتزم به ترامب. وكان الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان قد حاول طرد كل المفتشين العامين عندما وصل إلى البيت الأبيض في العام 1981، لكنه تراجع وأبقى على بعضهم تحت ضغط الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وحصد مفتشون عامون شهرةً واسعة خلال سنوات عملهم، لإنجازات تمكنوا من تحقيقها، وأشهرهم جون هيلغيرسون، الذي قاد مراجعة برنامج سرّي للتحقيق مع "إرهابيين مفترضين" بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، إثر كشف "مُبلّغ سرّي" من "سي آي إيه" عن برنامج تعذيبٍ يرقى إلى "جرائم حرب"، عبر استخدام الأميركيين أساليب عنف في تقنيات الاستجواب. ويطالب الديمقراطيون في الكونغرس اليوم بوضع ضوابط أكثر صرامة لإقالة أي رئيس مفتشاً عاماً.
تقول مجلة "نيويوركر" الأميركية إن ترامب "ملك التمويه"، فهو يستغل جائحة للتعمية على أخرى. تضيف أن محبي الرئيس قد يلتهون بمسلسل لا ينتهي من "انتقام فضيحة أوكرانيا"، التي قد يقع حتى قوله إنه يتناول الهيدروكسيكلوروكين في إطاره. لكن التعمية في الواقع، والتي وصلت إلى التغطية على ملفات أخطر، منها استمرار تسليح دول متهمة بارتكاب جرائم حرب، تجعل فريقاً في البيت الأبيض مستحكماً في تنفيذ أجندة مشبوهة. أما ما يفاقم الواقع، فهو انشغال العالم فعلاً بأزمة كورونا.