تؤكد عملية مستوطنة جفعات آساف قرب بلدة سلواد شرقي رام الله، التي تمكّن منفذوها من الفرار بعد قتل جنديين وإصابة آخرين بجروح، أول من أمس الخميس، ثمّ تمكُّن فلسطيني من الوصول إلى مستوطنة بيت إيل والاشتباك مع جندي إسرائيلي وإصابته بجروح بالغة، ثمّ الفرار من المكان، عدم الاستقرار وعدم السكون في الضفة الغربية المحتلة، على الرغم من الاقتحامات الليلية اليومية التي يقوم بها جيش الاحتلال لبلدات ومدن الضفة الغربية المحتلة، وسط غليان متواصل تحت السطح.
وقد بيّنت الأحداث المتواصلة في اليومين الأخيرين، حجم الفشل الإسرائيلي بالرغم من التنسيق الأمني الفاضح للسلطة الفلسطينية مع سلطات الاحتلال في ملاحقة عناصر المقاومة، ولا سيما عناصر حركة "حماس"، منعاً لتشكّل بنية تحتية وخلايا فلسطينية منظّمة، وانتهاء عهد الأعمال الفردية.
وقد أقرّ أكثر من مصدر إسرائيلي، أمس، بينهم ضابط إسرائيلي رفيع المستوى في حديث مع مراسلين عسكريين، كما أورد المعلّق العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هرئيل، في موقع الصحيفة، بحقيقة القلق الإسرائيلي من تمكّن حركة "حماس" من فتح جبهة ثانية ضدّ الاحتلال، من خلال العمليات التي تزايدت في الفترة الأخيرة في الضفة الغربية المحتلة ضد الاحتلال، بمعدل ثماني عمليات شهرياً، من إطلاق نار أو محاولات تنفيذ عمليات دهس.
ويشير هذا القلق إلى الإقرار بأنّ "حماس" تمكّنت، عبر ما تنسبه سلطات الاحتلال للقيادي البارز في الحركة، صالح العاروري، المقيم حالياً في لبنان، من التأسيس لقاعدة جديدة من العناصر في الضفة الغربية، وهو ما يؤكّد فشل منظومة التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، نسبة لما يجري على أرض الواقع من كوابيس تلاحق الجيش الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية، التي حذّرت تباعاً، وخصوصاً في العامين الماضيين، من عودة "حماس" بشكل منظّم إلى الضفة الغربية، بما يمكّنها من إطلاق عمليات نوعية. ويأتي ذلك على الرغم من مفاخرة الاحتلال ولا سيما جهاز الاستخبارات العامة، بشكل دوري بتمكّنه من إحباط عمليات خططت لها "حماس"، وهي لازمة يكررها الاحتلال منذ عملية اختطاف ثلاثة مستوطنين في حزيران 2014، وشنّ الاحتلال حملة اعتقالات واسعة في الضفة الغربية، شملت أسرى محررين من صفقة الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، مع إرساء أسس لرواية إسرائيلية مزعومة بأنّ "حماس" خطّطت عبر العاروري، لبناء شبكة خلايا لتنفيذ انقلاب على السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة.
وقد عكست إجراءات الاحتلال الفعلية في فرض الطوق على مدينة رام الله بعد فرار منفذي عملية جفعات آساف، والدفع بقوات وفرق جديدة إلى الضفة الغربية، حجم مخاوف الاحتلال من انفجار الغليان الشعبي هناك، بفعل الإحباط المتواصل لدى الفلسطينيين في الضفة والفلسطينيين عموماً، من سياسة الاحتلال وتعنّت حكومة اليمين الإسرائيلي في المضي في سياسات المصادرات والاستيطان والإعدامات الميدانية، لا سيما أنّ الجيش والمؤسسة الأمنية لم يتوقفوا عن التحذير من مخاطر غياب الأفق السياسي من جهة، واستمرار الاستخفاف بسلطة رام الله لدرجة تآكل سلطتها، من جهة أخرى. ويأتي ذلك في ظلّ استمرار محاولات الاحتلال ابتزاز السلطة الفلسطينية عبر اتهامها بشكل دائم بالتحريض، وهو ما كرره أمس عضو مجلس الكابينيت السياسي والأمني، الوزير زئيف إيلكين، عندما اعتبر في حديث مع الإذاعة الإسرائيلية "كان"، أنّ السلطة تتحمّل كما "حماس" مسؤولية عملية جفعات أساف، بفعل مواصلتها، بحسب زعمه، التحريض ودفع المخصصات لعائلات الأسرى والشهداء.
وبموازاة ردّ الاحتلال، وإعلان رئيس حكومته، بنيامين نتنياهو، بعد مشاورات أمنية، قراره بهدم منازل منفذي عمليتي "بركان"، الشهيد أشرف نعالوة، و"عوفرا"، الشهيد صالح البرغوثي، وتعزيز الاستيطان، بإقرار شرعنة بناء آلاف المساكن في عشرات البؤر الاستيطانية، فإنّ الاحتلال من شأنه في الأسابيع المقبلة تصعيد عمليات الاقتحام ونصب الحواجز وفرض المزيد من القيود على حركة الفلسطينيين في الضفة الغربية إرضاءً لضغوط المستوطنين، وصولاً إلى احتمال شنّ عمليات محدودة.
إلى ذلك، فإنّ مسارعة أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، أمس، إلى فضّ مسيرتين لحركة "حماس" والاعتداء على المشاركين فيهما في كل من مدينتي الخليل ونابلس، سيزيد من حالة الاحتقان في الضفة الغربية المحتلة، مما يهدد بانفجار الغضب الفلسطيني داخلياً أيضاً.
لكن حسابات الاحتلال لا تقف عند ما يحدث في الضفة الغربية، بقدر ما تأخذ في الحسبان، بعد اندلاع العمليات الأخيرة، تحذيرات الجيش، ليس فقط بشأن انهيار التنسيق الأمني وتفجّر الأوضاع، بل بتداعيات ذلك على قطاع غزة، وعلى الجبهة الشمالية. وهو ما دفع بنتنياهو إلى توجيه رسائل التهديد لـ"حماس" من أنّ إسرائيل لن تسلّم بحالة من الهدوء النسبي ووقف إطلاق نار على جبهة قطاع غزة، مقابل تنفيذ عمليات في الضفة الغربية. ناهيك عن مخاوف إسرائيلية من تفجّر الأوضاع أيضاً على الحدود مع لبنان، في حال قرر "حزب الله" الردّ على عمليات الحفر الإسرائيلية بذريعة البحث عن أنفاق هجومية تبدأ من لبنان وتنتهي في العمق الإسرائيلي، رغم مسارعة نتنياهو أخيراً لاطلاع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على "طبيعة العمليات الإسرائيلية"، وإيفاد بعثة عسكرية بهذا الخصوص إلى روسيا.
إلى ذلك، فإنّ استمرار حالة "عدم الهدوء" والعمليات الفدائية، يضع نتنياهو الذي تولّى أخيراً حقيبة الأمن أيضاً، أمام تحديات جديدة تهدّد بهدم كل الصورة الدعائية لحالة إسرائيل الأمنية ومكانتها الدولية والإقليمية بفعل موجة التطبيع والغزل بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، بدءاً من سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية والإمارات، وصولاً إلى ما تتناقله وسائل الإعلام أخيراً عن احتمالات تطبيع وعلاقات دبلوماسية رسمية مع السودان.
وتزيد التطورات الميدانية في الضفة الغربية من تعقيد حسابات نتنياهو، مع اندلاع موجة تظاهرات شعبية في إسرائيل، على خلفية رفع الأسعار وغلاء المعيشة، والتي من شأنها أن تتحول إلى حركة احتجاج واسعة، خصوصاً إذا كانت غير محزبة، واستمرت لأسابيع. وقد يلجأ نتنياهو في حال استمرت العمليات الفلسطينية إلى خطوات تصعيدية وشديدة لإسكات الاحتجاجات الاجتماعية، وصرف الأنظار عن ملفات الفساد التي تلاحقه. لكن المراقبين يرون أن خياراته في كل ما يتعلّق بالضفة الغربية محدودة للغاية، كي لا يحرق كلياً ما تبقى من تنسيق أمني مع السلطة الفلسطينية.