ورافقت هذه الانتخابات على امتداد الأشهر الماضية مخاوف عديدة من تأجيلها، لأسباب سياسية وقانونية، كان آخرها ما أطلق عليه "الخميس الأسود" في 27 يونيو/حزيران الماضي، الذي شهد وقوع عمليتين إرهابيتين في العاصمة تونس، ودخول الرئيس الباجي قائد السبسي إلى المستشفى العسكري، والذي لم يتنفس التونسيون الصعداء إلا بعد خروجه وتوليه توقيع دعوة الناخبين. لكنه كعادته، احتفظ السبسي بكل التشويق من خلال عدم توقيعه على تعديلات القانون الانتخابي التي كان أقرها البرلمان الشهر الماضي، ما تسبب في حرج للهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وزيادة في مشاكلها المتراكمة، وفتح المجال أمام تأويلات دستورية حول تطبيق هذه التعديلات من عدمها، بسبب مشاكل في الآجال، تسبب فيها قصداً السبسي.
وفيما انتظر الجميع أن تصدر هذه التعديلات بالرائد الرسمي (صحيفة تتضمن المنشورات الرسمية)، أول من أمس الجمعة، تاريخ انتهاء الآجال القانونية لذلك، ليتم تطبيقها من طرف الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، لم يصادق الرئيس التونسي على التعديلات التي أُقرت دستوريتها، ولم يردّها إلى البرلمان، ولم يدعُ إلى استفتاء، وهي الصيغ الثلاث الوحيدة المتاحة أمامه دستورياً، وذلك في سابقة دستورية أربكت الجميع، أحزاباً ومختصّين في القانون الدستوري وبرلمانيين.
وفي السياق، اعتبر النائب عن حزب "التيار الديمقراطي"، غازي الشواشي، في منشور عبر صفحته على موقع "فيسبوك"، أنّه "عندما يتعمّد رئيس الجمهورية خرق دستور البلاد الذي أقسم على احترامه، تصبح الاستقالة عليه واجبة". وتعكس دعوة الشواشي السبسي للاستقالة حالة عجز قانونية وسياسية صارخة، إذ يُفترض أن يتولى البرلمان توجيه لائحة عزل للرئيس في حالة وجود خرق جسيم للدستور، لكن ذلك يتطلب وجود محكمة دستورية أولاً، عجز البرلمان عن تعيين أعضائها والانتهاء منها طيلة السنوات الخمس من عهدته.
ويتّضح أنّ السبسي حسبها جيداً، وكان يعلم مسبقاً أنّ معارضيه لا يملكون بين أيديهم أي سلاح دستوري، فلجأ إلى تكتيك غاية في الدقة، وهو الصمت إلى حين انتهاء الآجال، ليضع الجميع أمام الأمر الواقع، ويفرض عليهم مشهداً انتخابياً مغايراً لما أرادوه.
غير أنّ صمت السبسي لم يكن على المستوى الدستوري فقط، وإنما كان أيضاً على المستوى السياسي، إذ لم يخرج ليفسّر للتونسيين أسباب رفضه للتعديلات، وإنما صرّح بذلك ابنه حافظ أولاً، قبل أن يلحقه مستشار الرئيس السياسي، نور الدين بن تيشة، ويؤكّد أنّ السبسي يرفض الإقصاء، وأنّ القانون على المقاس، ويعد بخروج الرئيس في كلمة إلى الشعب ليوضح أسباب رفضه للتعديلات. وبذلك، سيكون هذا الخطاب انتخابياً وليس مؤسساتياً، لأنه سيتمّ في قلب المعركة الانتخابية.
وتنطلق الانتخابات التونسية فعلياً، اليوم الإثنين، مع بدء تقديم الأحزاب والمستقلين للقوائم المترشحة للانتخابات التشريعية للهيئة العليا المستقلة للانتخابات، التي ستكون أمام رهانات تقنية وسياسية كبيرة، وحالة إرباك واضحة، إذ انتظرت كما الباقين أن يوقّع الرئيس على التعديلات، ووضعت لذلك خطة عملية معقدة، قبل أن تتراجع وتوجه باعتماد القانون الحالي كما هو من دون التعديلات الجديدة.
وتتعلق ھذه التعديلات بإدخال "العتبة الانتخابية" (نسبة الحسم) في الانتخابات التشريعية، إذ نصّت على أن تستثنى القوائم التي تحصل على أقل من 3 بالمائة من أصوات المقترعين على مستوى الدائرة الانتخابية. كما تضمن مشروع القانون الانتخابي تعديلات تتعلّق بعدد من الشروط الواجب توفرھا في المترشح للانتخابات، كمنع ترشّح وإلغاء نتائج كل من ثبت استفادته من استعمال جمعية أو وسائل إعلام للإشهار السياسي (الدعاية السياسية)، خلال السنة التي سبقت الانتخابات بالنسبة للتشريعیة والرئاسیة.
واشترط القانون أيضاً إبراز المترشّح للانتخابات التشريعية بطاقة أمنية قضائية خالیة من السوابق العدلیة، فیما أجبر المترشّح للانتخابات الرئاسية، إلى جانب إبراز ھذه البطاقة، على تقديم ما يفید بالتصريح بالمكاسب والمصالح، وما يفید بالتصريح الجبائي للسنة المنقضیة قبل سنة الانتخابات.
وتفرض التعديلات أيضاً على ھیئة الانتخابات رفض ترشّح كل من يثبت قیامه بخطاب لا يحترم النظام الديمقراطي ومبادئ الدستور، أو يمجد انتھاكات حقوق الإنسان.
وبإسقاط هذه التعديلات التي كانت ستستبعد عدداً من المترشحين الذين قدمتهم الاستطلاعات في طليعة نوايا التصويت (من بينهم نبيل القروي صاحب قناة "نسمة" وجمعية "عيش تونسي")، يخلط السبسي كل الأوراق مجدداً ويفرض واقعاً انتخابياً جديداً، خصوصاً مع الحديث عن تقارب في الأيام الأخيرة بين نجله حافظ والقروي، بما يعني تشكيل قوة انتخابية جديدة منافسة بجدية يمكنها أن تستعيد قوة حزب "نداء تونس". ولكن هذه الحسابات تبقى مجرد توقعات وتموقعات أولية، ليس من المضمون تحققها ولا أن تؤدي بالضرورة إلى النتائج المرجوة.
ويبدو أنّ معارضي السبسي سيحاولون البحث عن ردّ مناسب على هذه المفاجأة الكبيرة التي لم يحسبوا لها حساباً. وفي هذا السياق، دعت حركة "النهضة" أوّل من أمس السبت، مختلف الكتل لاجتماع عاجل لبحث هذه التطورات.
لكن همّ الأحزاب السياسية سيتجاوز بالضرورة هذه المسائل الدستورية، لأنّ إشارة الانطلاق اليوم الإثنين لن تنتظر أحداً، إلا إذا تأجّلت الانتخابات، وهو أمر غير ممكن قانونياً، ولكنه يبقى دائماً متاحاً سياسياً. وسينكبّ الجميع على التركيز على تداعيات المشهد السياسي الجديد، وما أفرزه من معطيات تؤشر إلى تغييرات كبرى منتظرة في المزاج الانتخابي التونسي، بحيث تفتح على كل الاحتمالات الممكنة في هذه الانتخابات، التشريعية والرئاسية.
لكنّ بعض الأحزاب تقلل من هذه التقلبات، وتعتبر أنّ ما قُدّم من توقعات بشأن بعض الأسماء، ليس بالضرورة حقيقة ثابتة، لأن الحملات الانتخابية الفعلية لم تنطلق بعد، والشخصيات المهمة لم تعلن ترشحها، والناخب التونسي هو ناخب محافظ في الغالب، ولا يميل إلى التغييرات الكبرى عادة. ولكن ذلك تكذبه الانتخابات البلدية التي وإن قدّمت "النهضة" على رأس الأحزاب، فإنها قفزت بالمستقلين إلى أعلى المراتب.
ويبدو أنّ "النهضة" بدأت توضح استراتيجيتها الانتخابية، خصوصاً بعد المفاجأة التي فجرتها بترشيح رئيسها راشد الغنوشي، للانتخابات البرلمانية، بعدما أوحت للرأي العام على امتداد أشهر، بالذهاب نحو ترشيحه للانتخابات الرئاسية. ويعكس هذا الموقف رغبة عند "النهضة" في خوض الانتخابات التشريعية بكل ثقلها، وهي مغامرة سياسية كبيرة تؤكد من ناحية إصراراً على أهمية النظام السياسي البرلماني، وتعكس أيضاً رغبة لدى الغنوشي في خوض أول انتخابات مفتوحة واستقراء شعبيته لدى التونسيين ودعم قوائم حزبه في هذه المعركة الانتخابية.
وفي موقف آخر، أعلن الأمين العام لاتحاد الشغل، نور الدين الطبوبي، أنّ منظمته قررت عدم ترشيح أعضائها للانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة، على المستوى المركزي والجهوي، وفسح المجال للقواعد، للمشاركة من خلال قوائم حزبية أو مستقلة من دون استعمال اسم الاتحاد. وهو ما يعني أنه قرّر النأي بنفسه والبقاء بعيداً عن الصراع السياسي الذي سيكون على أشده، ومفتوحاً على كل الاحتمالات الممكنة.