أي أفقٍ لمبادرة الغنوشي حول المصالحة الشاملة؟

05 مارس 2020
لا تفاصيل واضحة حول مبادرة الغنوشي (ياسين القايدي/الأناضول)
+ الخط -

لا تزال مبادرة رئيس حركة "النهضة"، رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي، المتعلقة بالمصالحة الشاملة، غير واضحة المعالم، على الرغم من إصراره في أكثر من مناسبة على تأكيد أهميتها بالنسبة للمرحلة المقبلة في تونس، والتي يجب أن تكون قائمةً على طيّ صفحة الماضي. واعتبر مقربون من الغنوشي مبادرته إحدى أهم ركائز عُهدته النيابية، وكذلك دورٍه السياسي في المرحلة الراهنة، لا سيما قبيل مغادرته لرئاسة "النهضة" في مؤتمرها المقبل، فيما تنظر أطراف سياسية أخرى إلى المبادرة بعين الريبة.

ولم يقدّم الغنوشي أيّ تفاصيل عن مفهومه الخاص للمصالحة الشاملة، التي ستعقب منظومة العدالة الانتقالية، وما إذا كانت مبنية على فشل هذه المنظومة، باستثناء ما تحقق من جبر ضررٍ مادي وتعويضات في تحصيل حقوق الضحايا المعنوية من اعتراف واعتذار وتحقيق العدالة بمحاسبة الجلّادين

وتتحمل "النهضة" الجانب الأكبر من إخفاق منظومة العدالة الانتقالية، بالإضافة إلى تعطيلها من جهات عديدة أخرى، فالحركة هي التي حدّدت حدودها ومآلاتها، وحتى إجراءاتها، واعتبر الملف منذ سنة 2011 تحت تصرفها. وكثيراً ما وضعت الحركة ثقلها السياسي لمواصلة السيطرة عليها، معللة بأن الحجم الأكبر من الضحايا من منتسبيها وأنصارها.

ويبدو أن حركة "النهضة" غيّرت نظرتها للعدالة الانتقالية بعد تعثرها، وذهبت باتجاه مرحلة جديدة منها، وهي المصالحة الشاملة التي لم يتضح ما إذا كان سيترتب عليها التغافل عن حقوق الضحايا، والتوجّه إلى بناء مرحلة جديدة على أسس طيّ صفحة الماضي. 

وأوضح القيادي في "النهضة" فتحي العيادي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن المصالحة الوطنية الشاملة شعارٌ رفعته الحركة منذ فترة طويلة، وعزّزته حاجة البلاد لالتقاء كفاءاتها لخدمتها، علاوةً على أن خطاب الإقصاء وممارسته لا يؤديان إلا إلى تعكير الحياة السياسية. وأضاف العيادي أن الاتجاه نحو فضاء المصالحة بين مختلف الأطراف السياسية مبني على قاعدة الدستور، وهو الذي تستمد منه هذه الأطراف شرعيتها، ولا حاجة لها لاعتراف أطراف أو رفضها له.

وبيّن القيادي في "النهضة" أن أفق العدالة الانتقالية هو المصالحة الشاملة وإنهاء حالة الاحتراب المستمرة حول الماضي والتاريخ، وأن المصالحة لا تنفصل عن منظومة العدالة الانتقالية التي تطرح تساؤلات عدة، خصوصاً بعدما تعرضت لتحويل مسارها. ومن أبرز هذه التساؤلات هو ما إذا كان أفق العدالة الانتقالية لا يزال قابلاً للعبور نحو المصالحة الشاملة، أو يستحق الأمر تصورات أخرى.

ورداً على ذلك، أكد القيادي في "النهضة" أن للغنوشي أفكاراً إضافية في هذا الصدد، لا تزال قيد النقاش، وتحتاج أن تلتقي حولها الأطراف السياسية من أجل إنجاح هذا المسار الذي تحتاجه البلاد، في وقت لا يزال فيه خطاب الإقصاء مستمراً. 


وتُحيل هذه المبادرة إلى التساؤل عمّا إذا كان رئيس حركة "النهضة" هو الشخصية القادرة على جمع الخصوم التاريخيين والجلّادين والضحايا حول مبادرته، في الوقت الذي تدعو فيه أطراف عدة إلى أن يستكمل رئيس البلاد قيس سعيّد هذا المسار ويقدم اعتذاراً للضحايا. وردّ العيادي على ذلك قائلاً إن "من يرفع شعار المصالحة، عليه أن يكون جاهزاً لذلك، وما أفرزته الانتخابات الرئاسية والتشريعية من أفكار جديدة حول تعديل الدستور وتغيير النظام السياسي، بيّن أن مسار المصالحة ليس سالكاً، وأن هناك عوائق معطلة له". 

وفي أولى خطوات صياغة المُبادرة، اتجه الغنوشي نحو شخصيةٍ محورية في النظام السابق، الأمين العام لحزب "التجمع" إلى غاية حلّه قضائياً بعد الثورة، محمد الغرياني، وهو صاحب رؤية التقارب مع الإسلاميين خلال تلك الفترة. 

والتقى الغنوشي بصفته رئيساً للبرلمان بالغرياني، مساء الثلاثاء الماضي، في إطار الحديث عن المبادرة وأهميتها من أجل مصالحة شاملة وعادلة، وفق ما ورد في بيان رسمي صدر عن مجلس النواب. ونقل البيان أن الغنوشي "أكد أهمية المبادرة لطيّ صفحة الماضي باستكمال مسار العدالة الانتقالية وتحقيق المصالحة الشاملة والعادلة في أسرع وقت، بما يساهم في تكريس الوحدة الوطنية". ووجدت مبادرة الغنوشي صداها لدى الغرياني، الذي أعرب عن ضرورة الاستمرار في هذا المسار لتحقيق نقلة نوعية في البلاد.

وخلافاً لموقف الغرياني الليّن، جاء موقف "الدستوري الحر"، سليل حزب "التجمع" أيضاً، رافضاً لمساعي الغنوشي، ولمبدأ المصالحة مع الإسلاميين أصلاً وشكلاً. 

وقال النائب عن كتلة الحزب، مجدي بوذينة، في تصريح صحافي، إن الغنوشي "لا يمكن أن يكون جامعاً، بل سبباً رئيسياً في التوتر ومآل مبادرته هو الفشل لا محالة"، مضيفاً أن "سليلي الحزب الدستوري لا يمكن لهم التصالح مع من خرّب منجزات الدولة الوطنية"، وبذلك لا تتعدى المبادرة، برأيه، "شراء ذمم من يقبلون بيع أنفسهم من منتسبي العائلة الدستورية أو المنتمين سابقاً للتجمع".

إلى ذلك، أثارت المبادرة ريبةً وشكوكاً من قبل أغلب الكتل النيابية، التي تنتظر أن يتم تفصيلها وعرضها، حتى تعبر عن موقفها النهائي بشأنها. وتترقب "الكتلة الديمقراطية" بدورها اتضاح التصور حتى تبتّ فيه، مذكرةً بأن منظومة العدالة الانتقالية وإصلاح عيوبها أكثر أهمية من تقديم مبادرة جديدة. 

وأكد الأمين العام لحركة "الشعب" زهير المغزاوي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه على الرغم من الإعلان عن هذا التصور مراراً من قبل رئيس البرلمان، فإنه لم يتم التوجه لبقية القوى السياسية من أجل استشارتها أو إعلامها بفحوى المبادرة. ولفت إلى أنه "بقدر ما تحتاج البلاد للتطلع للمستقبل بنظرة جديدة مبنية على الوحدة، فإنه من الواجب مراعاة منظومة العدالة الانتقالية واستكمالها".

وتعيب كتلة "قلب تونس" على الغنوشي، كذلك، الخلط الحاصل بين صفته رئيساً لـ"النهضة" ومنصبه كرئيس للبرلمان، نافيةً بدورها أيّ تنسيق أو علم في هذا الصدد. وعلّق القيادي في "قلب تونس" عماد أولاد جبريل، على الخطوط العريضة المعلن عنها للمصالحة الشاملة، مستنكراً غموض المبادرة وصياغتها بطريقة أحادية في تجاهل لبقية هياكل البرلمان وتجاوز للمؤسسة التشريعية. واعتبر أولاد جبريل، في تصريحٍ لـ"العربي الجديد"، أنه كان من الأجدى عدم خلط الغنوشي بين صفتيه عند تقديم هذا الطرح، معتبراً أن هناك أولويات تشريعية عاجلة، كان لا بد النظر فيها أولاً.