بيع الجنسية المصرية: "الأمن القومي" وصفقة القرن واستثمار سيناء

17 يوليو 2018
بات السيسي متحكماً بشكل كامل بالبرلمان (العربي الجديد)
+ الخط -
فاجأ البرلمان المصري المحسوب مباشرة على الرئيس عبدالفتاح السيسي، الرأي العام بتمرير مشروع قانون يسمح بمنح الأجانب الجنسية المصرية مقابل وديعة قدرها 7 ملايين جنيه (أقل من 400 ألف دولار)، بعد عام ونصف تقريباً من طرح المشروع لأول مرة من قبل الحكومة السابقة برئاسة شريف إسماعيل، وتجميده في البرلمان بعد رفض القضاء ممثلاً في مجلس الدولة، ورفض بعض الجهات السيادية كالجيش والمخابرات العامة. ووافق مجلس النواب، أمس الإثنين، بصفة نهائية، على القانون، فيما سجّل 11 برلمانياً من أعضاء تكتل (25 - 30) رفضهم له.

ويبدو أن التوقيت أصبح مؤاتياً لإعادة طرح هذا المشروع وإقراره بسرعة شديدة من دون إخضاعه لمناقشات مستفيضة تعكس الخلاف الرسمي بين أجهزة الدولة والغضب الشعبي منه، فعلى الصعيد المحلي، أصبح المجلس الأعلى للقوات المسلحة خاضعاً بالكامل لسيطرة السيسي بعدما تمت الإطاحة بقائد سلاح الدفاع الجوي عبدالمنعم التراس، آخر القادة الذين عملوا مع عنان، الذي كان قائده في السلاح نفسه. فقد كان التراس آخر ممثلي جيل حرب 1973، ولم يعد بين قيادات الجيش من هو أكبر سناً من السيسي إلا صديقه الفريق محمد فريد حجازي، والذي عيّنه أخيراً رئيساً للأركان، واللواء ممدوح شاهين مساعد وزير الدفاع للشؤون القانونية والدستورية.

أما الأجهزة السيادية والأمنية، فقد أصبحت قياداتها تحت سيطرة السيسي بالكامل، بعد إطاحته بعشرات الضباط الكبار ذوي الخبرات الواسعة، ثم عزل اللواء خالد فوزي، الذي اختاره السيسي في ديسمبر/ كانون الأول 2014 قائماً بأعمال مدير المخابرات العامة، خلفاً للواء محمد فريد التهامي بعد مرضه، وتعيين مدير مكتبه، اللواء عباس كامل المنتمي للمخابرات الحربية، خلفاً له.

أما القضاء، فبعدما كان مجلس الدولة يملك القدرة على الاعتراض على بعض القوانين، من بينها هذا القانون الذي يسمح باختراق أجنبي واسع للأمن القومي المصري، خلافاً للتقاليد المتوارثة في المنظومة التشريعية المصرية، فقد أصبح هذا المجلس، شأن باقي الهيئات القضائية، منزوع الأنياب والأظافر، بعدما فَقَد استقلاله منتصف العام الماضي وأهدرت قاعدة الأقدمية فيه للأبد، وأصبح رئيسه يعيّن باختيار شخصي من السيسي.

وعلى الصعيد الدولي والإقليمي، ثمة تطورات كثيرة تتورط فيها مصر تثير شبهات عدة حول توقيت ظهور هذا القانون، أبرزها المحادثات الجارية بتخطيط أميركي سعودي إسرائيلي ومشاركة مصرية أردنية فلسطينية حول "صفقة القرن"، وما تحتوي من بنود مفادها إلغاء حق العودة للفلسطينيين المقيمين في الدول العربية منذ الستينيات، ومنهم المقيمون في مصر والذين يعاملون معاملة المصريين في العديد من الإجراءات الحكومية لكنهم لم يكتسبوا الجنسية المصرية أبداً، ولا يحق لأبنائهم الحصول على الجنسية المصرية تبعاً لأمهاتهم المصريات إلا بناء على أحكام قضائية بدأ إصدارها في نهاية عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. بل إن النظام الحاكم حالياً عمد بعد الإطاحة بحكم محمد مرسي، إلى سحب الجنسية المصرية من مئات الفلسطينيين، والامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة لأبناء الأمهات المصريات، بحجة انتمائهم لحركة "حماس" أو تيارات سياسية فلسطينية أخرى، أو لإقامتهم الدائمة في قطاع غزة.

وتتكامل البنود المسربة من مسودات "صفقة القرن"، مع ما تؤدي إليه النصوص المقترحة في مشروع قانون منح الأجانب الجنسية المصرية مقابل وديعة، فالمتموّلون الفلسطينيون المقيمون في مصر ستكون أمامهم الفرصة للحصول على الجنسية المصرية مقابل إيداع المبلغ المالي، الذي لا يعتبر كبيراً قياساً بتضخم الاقتصاد المصري وتراجع قيمة العملة المحلية. كما ستكون أمامهم الفرصة ليكونوا على قدم المساواة تماماً مع المصريين في ما يتعلق بحقوق العمل والملكية والتوظيف، فضلاً عن توريثهم الجنسية المكتسبة بالوديعة لأبنائهم، ما يسمح بتكوين أجيال جديدة من الفلسطينيين المنفصلين تماماً عن وطنهم الأصلي.


وتزيد من هذه المخاوف حماسة السيسي لتدشين المشاريع المرفقية المزمع تنفيذها في غزة ورفح والعريش، كنوع من الموارد التنموية للقطاع، بتمويل سعودي وإماراتي، ستكون قادرة على استيعاب مئات الآلاف من العمال الفلسطينيين وأسرهم، وذلك حتى مع اشتراطه تلقي دعم أميركي مالي ولوجستي عسكري لتطهير منطقة شمال شرق سيناء بالكامل من الإرهابيين، باعتبار أن استمرار الحرب المصرية على الإرهاب لأجل غير مسمى سيعرقل بالتأكيد أي أفكار عن شراكة تنموية بين مصر وغزة.

أما المستجد الثاني ذو البُعد الإقليمي، فهو تعميق التبعية المصرية الاقتصادية للسعودية والإمارات، واستماتة السيسي لجذب الاستثمارات منهما بأي ثمن، لتعويض الخفض الهائل في المعونات والمنح غير المستردة التي كانت تتدفق منهما على نظامه منذ عزل محمد مرسي وحتى افتتاحه مشروع التفريعة الجديدة لقناة السويس.
وأكدت مصادر حكومية نافذة لـ"العربي الجديد"، أنه كما كان للإمارات دور في صياغة قوانين تحصين العقود الإدارية من الطعن، ومشروع قانون المناقصات والمزايدات الجديد، لحماية مصالحها المباشرة بعد تهديد المستثمرين الإماراتيين بترك المشاريع إذا لم تعمل الحكومة على اختصار الإجراءات المعمول بها، فإن الإمارات كان لها دور كبير في الضغط على حكومة السيسي لتحريك المشروع الجديد الذي يسمح بالحصول على الجنسية المصرية مقابل وديعة لا تمثّل قيمتها أي مشكلة لرجال الأعمال الإماراتيين.

وأوضحت المصادر أن العديد من المستثمرين الإماراتيين والسعوديين يرغبون في تملّك مساحات شاسعة من الأراضي في سيناء تحديداً، وكذلك في بعض المناطق الصحراوية الواعدة بالدخول في نطاق المدن الجديدة، لإقامة مشاريع سياحية وسكنية، الأمر الذي لا يجد السيسي أي غضاضة به. لكن التشريع المصري، حتى اللحظة، يمنع الأجانب من التملّك في أراضي سيناء وكذلك في تلك الأراضي الصحراوية التي تديرها الحكومة، ويضع في سبيل حصولهم على حق الانتفاع قيوداً لا تناسب طموحات المستثمرين، فكان السيسي يصدر قرارات محددة بمعاملة بعض رجال الأعمال الخليجيين أو أمراء بعينهم كمواطنين مصريين في تملّك مساحات معينة، كما حدث مع أمير البحرين حمد بن خليفة منذ عامين.

ويتيح المشروع الجديد للمستثمرين العرب بعد حصولهم على الجنسية المصرية مقابل الوديعة، حقوق المواطنين المصريين نفسها، بل إن المشروع يوكل وزير الداخلية ومجلس الوزراء بإصدار اللوائح والقرارات المنظمة لمنح الجنسية للأجانب المقيمين بوديعة 7 ملايين جنيه، وذلك بالمخالفة الصريحة لنص المادة 6 من الدستور الحالي، التي تنص على أن "يحدد القانون (وليس قراراً لائحياً) شروط اكتساب الجنسية المصرية".

واللافت من محاضر موافقة الحكومة ولجنة الأمن القومي في مجلس النواب على المشروع، والتي حصلت عليها "العربي الجديد"، أنهما التفّتا على الملاحظة الدستورية الرئيسية التي سجلها مجلس الدولة على المشروع لدى عرضه عليه في أكتوبر/ تشرين الأول 2016. فمجلس الدولة كان قد طالب الحكومة باتّباع نظام الجنسية مقابل الاستثمار، المعمول به في العديد من دول العالم، كالولايات المتحدة وبريطانيا والعديد من جزر الكاريبي، باعتبار أن "الوديعة" لا تساهم في تشجيع الاستثمار بالمشاريع الكبرى، التي تزعم الحكومة أنها السبب الحقيقي لاستحداث المشروع. واعتبرت الحكومة واللجنة أن "دفع الودائع النقدية هو أحد صور الاستثمار غير المباشر، ويتيح زيادة العملة الأجنبية وإمكانية التصرف فيها وفق احتياجات الخزانة العامة، وزيادة الاحتياطات المالية من النقد الأجنبي"، بزعم أن الهدف الرئيس للمشروع هو "خلق الجو الملائم والمستقر لتشجيع الاستثمار الأجنبي لدعم الاقتصاد المصري".

ووفقاً للمشروع، فإنه سيتم استحداث فئة رابعة لإقامة الأجانب بموجب وديعة نقدية مجمّدة في أحد البنوك المصرية، من دون عائد، لن تقل قيمتها عن 7 ملايين جنيه مصري أو ما يعادلها بالعملة الأجنبية، وبعد 5 سنوات من إقامة دافع الوديعة في مصر يمكنه الحصول على الجنسية المصرية بقرار إداري من وزير الداخلية، بناء على ضوابط يحددها الوزير بعد موافقة مجلس الوزراء.