بريطانيا تترك أفغانستان للألغام.. والأفيون

29 أكتوبر 2014
لا تزال الحقول الأفغانية ملأى بالألغام والأفيون (الأناضول)
+ الخط -

كان من المفترض أن يستمرّ التدخل العسكري البريطاني في أفغانستان، ثلاث سنوات فقط، وبكلفة ماديّة تصل إلى مليار جنيه إسترليني، وكلفة بشرية لم يشأ أي من السياسيين أو العسكريين الحديث عنها حينها، لكنّ الرمال المتحرّكة في صحراء أفغانستان، وحرب الكرّ والفرّ "الطالبانية"، سرعان ما سحبت القوات البريطانية نحو حرب يبدو أنّ لا قاع لها.
في مطلع عام 2006، أرسلت بريطانيا 3300 عسكري الى إقليم هلمند. قبل نهاية العام ذاته، قفز العدد إلى 5 آلاف عسكري، وسرعان ما بدأت الثكنات الإسمنتيّة تحل مكان الخيم، وتحوّل المعسكر الصغير إلى جزيرة في محيط معادٍ، ليقفز عدد القوات البريطانية إلى 8 آلاف عسكري مع نهاية عام 2008، وصولاً إلى 9500 عسكري في عام 2010.

لم تتأخّر القوات البريطانيّة، منذ اليوم الأول من وصولها إلى الأراضي الأفغانية، عن إعلان أهداف وجودها في مقاطعة هلمند. وتتلخص تلك الأهداف، في القضاء أولاً على تنظيم "القاعدة" وحاضنته المحليّة المتمثلة في حركة "طالبان"، وتدريب قوات الجيش والشرطة الأفغانية ثانيّاً.
على مستوى الهدف الأول، ارتكزت استراتيجيّة القوات البريطانيّة على تدمير البنى التحتيّة والبشريّة لتنظيم القاعدة، والحيلولة من دون تحويل أفغانستان الى ملجأ آمن لمقاتلي "القاعدة"، عبر تفكيك الحاضنة المحليّة. أمّا على مستوى الهدف الثاني، فقد تضمّنت الخطّة تقديم الخبرات البريطانية لبناء قوات الجيش والشرطة الأفغانية، وتدريبها لتصبح قادرة على مواجهة تنظيم "القاعدة" وحليفته حركة "طالبان"، مع فرض الأمن وسلطة الدولة، من دون الحاجة إلى أي تدخّل مباشر من أيّ قوات أجنبيّة.
اليوم، وبعد مرور 13 عاماً على وصول أولى طلائعها إلى أفغانستان، تغادر القوات البريطانيّة أفغانستان، بعدما تكبّدت خسائر ماديّة، تجاوزت 40 مليار جنيه إسترليني، وفقدت 453 قتيلاً والمئات من الجرحى والمعاقين.

ولم تكد تنتهي مراسم إنزال العلم البريطاني في قاعدة هلمند، وصعود أول أرتال الجنود إلى الطائرات العائدة إلى الوطن، حتى اندلع طوفان من الأسئلة حول ما تمّ إنجازه في "حرب أفغانستان"، وعمّا إذا كان ما أنجز، في حال تحقيقه، يستحقّ كلّ هذه التضحيات.
يصرّ وزير الدفاع البريطاني، مايكل فالون، في موازاة اعترافه بارتكاب ‏‏"أخطاء" خلال الحملة البريطانيّة في أفغانستان، نتيجة الأعداد غير الكافية والمعدات غير الجيّدة في البداية، على أنّ "القوات البريطانيّة أنجزت مهماتها بنجاح". يقول إن الأخيرة "تمكّنت مع باقي القوات المشاركة في "إيساف"، من تحجيم قوى تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان"، ونجحت في بناء مؤسّسات الدولة عبر عمليّة ديمقراطيّة، كما أنجزت مهمّة تدريب قوات الجيش والشرطة الأفغانية، وتأهيلها لتكون قادرة على تولّي مهمّة حماية الأمن والاستقرار في البلاد.

ولا يبدو كلام فالون شافيّاً، لأهالي 453 عسكريّاً سقطوا أو أصيبوا في حرب أفغانستان. تنقل الصحافة البريطانيّة عن عدد منهم قولهم إنّ "أولادهم ذهبوا ضحيّة حرب لا تستحق ولا داعٍ لها، وشابها الكثير من سوء الإدارة وضعف الإمكانيات". ويرى أهالي الضحايا أنّ "أفغانستان ستبقى جرحاً مفتوحاً، يذكّرهم بمن فقدوهم هناك".
ولم يقنع كلام فالون أيضاً الكثير من المراقبين، الذين يجادلون بأنّ التدخّل العسكري في أفغانستان، لم يحقّق أيّاً من أهدافه بشكل تام. قد تكون القوات الدوليّة، بما فيها البريطانيّة، وفق هؤلاء، نجحت جزئيّاً في تقليم مخالب تنظيم "القاعدة" وحليفته "طالبان"، لكنّ المؤكّد أنّها فشلت في استئصال هذا الخطر، بشكل تام، ما يُنذر بإمكانيّة عودته، وربما تناميه بعد انسحاب القوات الأجنبيّة.

وسرعان ما تجلّت تلك الهواجس، في الهجوم الذي شنته حركة "طالبان"، أثناء إتمام مراسيم الانسحاب البريطاني، مستهدفة مقرّ النائب العام الأفغاني في إقليم قندوز، ما أسفر عن ثمانية قتلى.
ويبدو واضحاً، إضافة إلى ما سبق، أنّ ادعاء الساسة والعسكريين البريطانيين النجاح في إقامة نظام سياسي ديمقراطي، محمي بقوات جيش وشرطة قادرة على فرض النظام والقانون، لا يستقيم مع حجم الفساد المسجّل في المؤسّستين السياسيّة والعسكريّة في كابل، ولا يستقيم أيضاً مع الشكوك في إخلاص وانتماء قوات الجيش والشرطة للدولة، وخصوصاً أنّ كثيرين من أفراد القوات الدوليّة، وبينهم بريطانيون، قتلوا على أيدي عناصر موالية لـ"طالبان"، اندسّت في صفوف عناصر الجيش والشرطة الذين جنّدتهم ودرّبتهم القوات الدولية.

في المحصلة، لم يأت كلام وزير الدفاع البريطاني، في اليوم الأخير لوجود القوات البريطانية في معسكر باستون في هلمند، مقنعاً للسواد الأعظم من الرأي العام البريطاني، مع تأكيد 68 في المائة من البريطانيين أن التدخّل العسكري في أفغانستان كان بلا جدوى، وفق استطلاع للرأي، أجرته هيئة الإذاعة البريطانيّة "بي بي سي"، عشية الانسحاب البريطاني من أفغانستان. في المقابل، يرى 14 في المائة فقط، أن بريطانيا الآن أكثر أمناً لما أنجزته قواتها في أفغانستان، في موازاة اعتبار 44 في المائة من المشاركين في الاستطلاع، أنّ التدخّل العسكري الدولي، والبريطاني منه، أحدث أثراً قليلاً في الأوضاع الأمنيّة في أفغانستان.

ويذهب بعض المشكّكين في جدوى التدخل البريطاني والدولي في أفغانستان، وجدوى الخسائر البشريّة والماديّة التي هُدرت هناك، إلى حدّ القول، إنّ القوات الأجنبيّة، لم تفشل في القضاء على "القاعدة" و"طالبان" فحسب، بل فشلت كذلك، في الحرب على الأفيون وتجارته، إذ لا تزال أفغانستان، حتّى اللحظة الراهنة، البلد الأول على المستوى العالمي، من حيث إنتاج الأفيون.
أخيراً، باتت سارية قاعدة باستون بلا علم، مع عودة جنود الملكة إليزابيث الثانية إلى ثكناتهم في الوطن، تاركين خلفهم أفغانستان تتكئ على قدمين من فخار، وسط حقول متخمة بالألغام والأفيون.

دلالات