على امتداد قرابة أربع سنوات بين مارس/آذار 2015، تاريخ قرار المغرب المشاركة في "التحالف العربي" الذي تقوده السعودية لمحاربة الحوثيين في اليمن، وفبراير/شباط 2019، الذي أثيرت فيه أخبار عن تعليق المغرب مشاركته في هذا التحالف، جرت "مياه كثيرة" تحت جسر العلاقات المغربية السعودية التي لا يخفى على المهتمين أنها تمرّ بـ"أزمة صامتة". ويربط خيط رفيع بين مشاركة المغرب في قوات التحالف الذي تقوده السعودية، وبين علاقات الرباط والرياض؛ فعندما كانت هذه العلاقات قوية وفي أوجها، كانت المشاركة في التحالف قوية الزخم والتعاطي، غير أنه بمجرد ما دبّ فيها الفتور، الذي بلغ درجة استدعاء سفير الرباط في الرياض بسبب بثّ قناة سعودية معروفة (العربية) لبرنامج تعتبر الرباط أنه يسيء للوحدة الترابية للمملكة، تراجعت مشاركة المغرب إلى حدّ الحديث عن انسحابه أو على الأقل تجميده لحضور الاجتماعات الوزارية للتحالف العسكري.
كل شيء بدأ في يوم 26 مارس/ آذار سنة 2015 عندما قرّر المغرب حينها، وفق بيان لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون، "تقديم جميع أشكال الدعم والمساندة إلى التحالف من أجل دعم الشرعية في اليمن، في بعده السياسي والمعلوماتي واللوجيستي والعسكري". حينذاك، أفردت الرباط سياقاً لمشاركتها في التحالف العسكري واللوجستي من خلال "وضع القوات الجوية الملكية المغربية الموجودة في الإمارات رهن إشارة هذا التحالف لإخراج اليمن من الأزمة التي يتخبط فيها، والوضع الدامي الذي يجتازه، وكل مؤامرة خارجية تحاك ضده وضد الأمن الخليجي والعربي".
ولم يكد يصدر قرار المغرب بالمشاركة في التحالف الذي تقوده السعودية، والحرب الطاحنة التي شنتها قوات هذا التحالف على اليمنيين، حتى اندلع جدل سياسي كبير حينها، توزعت على أثره مواقف السياسيين إلى فريقين: الأول رأى أن المشاركة عبارة عن "إشهار للحرب" يستلزم مشورة البرلمان، والثاني وجد في ذلك دعماً لتحالف إقليمي. فيما اعتبرت الحكومة أن "القرار جاء في سياق الوفاء بواجب التضامن العربي والدفاع عن الشرعية باليمن".
وكانت أوّل "ضربة قاسية" تلقاها المغرب بعيد مشاركته في هذا التحالف، من خلال حادثة أليمة هزت المجتمع المغربي، عندما سقطت طائرة "إف 16" مغربية، وهي واحدة من بين 6 طائرات عسكرية يشارك بها المغرب، وكان يقودها الطيار الشاب الملازم ياسين بحتي، وذلك في 10 مايو/ أيار 2015. وبعد ذيوع خبر مصرع الطيار "أثناء تأدية واجبه كعسكري في إطار مشاركة المملكة ضمن التحالف العربي من أجل إرساء الشرعية في اليمن"، وفق بلاغ سابق للقيادة العسكرية المغربية، انطلقت أصوات تطالب المغرب بالنأي عن صراعات تلك المنطقة، وإعادة طائراته وقواته إلى البلاد، درءاً لمزيد من الخسائر المحتملة.
ومرّت الأسابيع والشهور ليندلع حدث أكثر خطورة وتأثيراً، عندما قررت بلدان خليجية قطع العلاقات مع دولة قطر، فكان ردّ المغرب مفاجئاً في ذلك الوقت مقارنة مع مواقف عدد من البلدان العربية التي انخرطت في حملة المقاطعة، إذ قررت الرباط أخذ مسافة معقولة من أطراف المشكلة، واختارت ما سماه مراقبون "الحياد الإيجابي". وأكدت المملكة وقتها أن "علاقات قوية تربطها بدول الخليج في المجالات كافة، رغم أنها بعيدة عنها جغرافيا، وتشعر أنها معنية، بشكل وثيق، بهذه الأزمة بدون أن تكون لها صلة مباشرة بها، وأنها تفضّل حياداً بنّاءً لا يمكن أن يضعها في خانة الملاحظة السلبية لمنزلق مقلق بين دول شقيقة".
هذا الموقف الذي وصفه الكثيرون بالشجاع من طرف العاهل المغربي محمد السادس الذي اتخذ القرار بإمساك العصا من الوسط، أزعج محور الرياض ــ أبو ظبي، وقد زاد "الانزعاج" بعد قرار الملك المغربي إرسال شحنة جوية تتضمن مساعدات غذائية إلى قطر، إثر قرار فرض الحصار البري والجوي على الدوحة، كمبادرة إنسانية رمزية منه تجاه هذا البلد الخليجي، لتعقبها زيارة رسمية للملك نفسه إلى الدوحة.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن لا علاقة لهذا "الخط الأول" من حدود التماس بين المغرب والسعودية، مع قرار مشاركة الرباط في التحالف العربي في اليمن. لكن مجريات الأحداث التي تلت ذلك أكدت أنها (الأحداث) كانت بمثابة نقاط أفاضت شيئاً فشيئاً كأس التوترات الصامتة بين "المملكتين الشقيقتين"، كما دأب إعلام البلدين على تسميتهما.
الردّ السعودي لم يتأخّر كثيراً، إذ استغلّت الرياض في يونيو/حزيران 2018 فرصة تقديم المغرب لملف تنظيم كأس العالم لسنة 2026، والذي راهنت عليه الرباط كثيراً للترويج للسياحة وجلب الاستثمارات، لتعلن صراحة اصطفافها ضدّ الترشيح المغربي ومع الملف الأميركي، وكان الموقف السعودي مؤثراً باستقطابه لأصوات أخرى أجهضت الحلم المغربي.
وحتى لو لم يقدم المغرب على إعلان موقف رسمي مما جرى، باستثناء تصريحات وزير الرياضة رشيد الطالبي العلمي، الذي استنكر وقوف "أشقاء عرب" ضدّ مصلحة المغرب، فإنّ الرباط بلعت الصفعة السعودية القوية، ولم يكن ردها عنيفاً ضدّ الرياض، إذ تلت ذلك مواقف وزيارات دبلوماسية بين الطرفين، وتصريحات تؤكد على "جودة العلاقات" بين البلدين.
وبعد أيام قليلة من التصويت الرسمي للسعودية لصالح الملف الأميركي ــ المكسيكي المشترك في المونديال، أعاد المغرب الصفعة إلى السعودية بقرار عدم المشاركة في أعمال اجتماع وزراء إعلام دول ما يسمى "التحالف لدعم الشرعية في اليمن" الذي انعقد في 23 يونيو/حزيران الماضي بمدينة جدة السعودية. وبهذا القرار، بدأ المغرب "ينسلّ" فعلياً وتدريجياً من التحالف، إلى حدّ أنه راجت أخبار قوية في أبريل/نيسان الماضي عن أن المغرب سحب سرب طائراته العسكرية التي وضعها رهن إشارة التحالف الذي تقوده الرياض، فيما ربطت وسائل إعلام مغربية حينها الأمر بأنّه يأتي في سياق استعداد المغرب لأي طارئ في قضية الصحراء، بعد الاختراقات التي قامت بها جبهة "البوليساريو" في المنطقة العازلة بالصحراء.
وفي خضمّ هذه الأحداث المتتالية، التي حرص مسؤولو البلدين على عدم تسليط الأضواء عليها، تردّد بقوة رفض العاهل المغربي استقبال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي زار بلداناً مغاربية جارة للمغرب، مثل الجزائر وموريتانيا وتونس، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، في سياق جولته التي أعقبت الحصار المفروض على القيادة السعودية على خلفية جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي. وكان واضحاً أنّ بن سلمان لم يزر الرباط، ليتم تفسير الأمر بـ"عدم سماح أجندة الملك المغربي" بذلك.
وتأكيداً لكل ما سبق من "توترات صامتة"، جاءت أخيراً التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، للمرة الأولى، عندما أكّد في حديث لقناة "الجزيرة"، أنّ "المغرب شارك في التحالف بقيادة السعودية، لكنه غيّر موقفه لاحقاً بناءً على تغيّر تقييمه للوضع، في ضوء التطورات الميدانية سياسياً وإنسانياً في اليمن".
وكـ"ردّ سعوديّ" على الموقف المغربي الذي صرح به بوريطة، حتى من دون أن يعلن صراحة عن موضوع الانسحاب الفعلي من التحالف، فاجأت قناة "العربية" المغاربة ببث تقرير يتحدّث عن كون المملكة احتلت الصحراء، كما بثّت خريطة البلاد مبتورة من هذه المناطق، وهو الأمر الذي رفضته الرباط بشدة، والذي جعلها تقدم على استدعاء سفيرها بالرياض للتشاور، وفق ما كشفته وكالة "أسوشييتد برس" الأميركية ليل الخميس.
ولم تعلّق الرباط رسمياً على هذا الموضوع إلى حدود صباح أمس الجمعة، فيما قال السفير المغربي في السعودية، مصطفى المنصوري، للصحافة، إنّ الرباط استدعته من الرياض وذلك بقصد التشاور بشأن العلاقات بين البلدين، واصفاً الأمر بأنه "مجرّد سحابة عابرة في خضم علاقات وطيدة بين البلدين".