ولم تعلم مصر رسمياً بمقاطعة إثيوبيا لجولة واشنطن التي كان من المفترض أن تكون الأخيرة والحاسمة في طريق المفاوضات، إلا من خلال وسائل الإعلام، والتي كانت قد نقلت أنباء عن مصادر سودانية غير معلومة في ساعة متأخرة من مساء أول من أمس الثلاثاء، بأن إثيوبيا لن تحضر.
وتواصل "العربي الجديد" مع مصادر دبلوماسية وحكومية مصرية مطلعة على الملف، فجر أمس الأربعاء، فأكدت هذه الأخيرة أن الجانب المصري ليس لديه أي علم بالموقف الإثيوبي، وذلك حتى إعلانه رسمياً صباح أمس عبر الحساب الخاص بوزارة المياه والري والطاقة على موقع "تويتر"، بعد ساعات من مغادرة عبد العاطي القاهرة. وأكدت وزارة الخارجية المصرية إثر الإعلان الإثيوبي التزامها بالمسار التفاوضي الذي ترعاه واشنطن والبنك الدولي، وأن "الهدف من الاجتماع الراهن هو وضع اللمسات الاخيرة لاتفاق ملء وتشغيل سد النهضة، والذي قام الجانب الأميركي والبنك الدولي ببلورته على ضوء جولات المفاوضات التي أجريت بين الدول الثلاث منذ اجتماع واشنطن الأول في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019".
وعقب تأكيد المقاطعة الإثيوبية، قالت المصادر التي تحدثت لـ"العربي الجديد"، إن الخارجية المصرية تواصلت مع نظيرتها السودانية ووزارة الخزانة الأميركية للوقوف على مستجدات الأوضاع، فتبين أن الحكومة الإثيوبية اتخذت هذا القرار عقب عودة رئيس الوزراء السابق هايله ميريام ديسالين من زيارته للخرطوم التي تلت زيارة مماثلة للقاهرة. وكان ديسالين يحاول إقناع الجانبين المصري والإثيوبي بتأجيل التوقيع على الاتفاق، الأمر الذي لم يلق رضا القاهرة ولا السودان، ولا الولايات المتحدة. وأضافت المصادر أن "واشنطن أبلغت القاهرة بأن هناك احتمالات لأن يشهد محيط مقر المفاوضات تظاهرات إثيوبية معارضة للتفاوض"، مرجحة أن يكون القرار الإثيوبي نابعا من أزمة سياسية محلية، لمحاولة امتصاص الغضب الشعبي المتزايد تجاه المفاوضات.
وجاءت تصريحات ديسالين أول من أمس من الخرطوم عن رغبة بلاده في التأجيل، تأكيداً لما انفردت بنشره "العربي الجديد" الثلاثاء الماضي، بشأن محاولات إثيوبية حثيثة حالياً، على صعيد الاتصالات المستمرة بين أديس أبابا وواشنطن من جهة، ومع القاهرة من جهة أخرى، لتأجيل إعلان التوصل إلى الاتفاق النهائي لفترة إضافية غير محددة، لحين تهدئة الأوضاع السياسية المتوترة في إثيوبيا. ويرجع سبب التوتر الداخلي الإثيوبي إلى الاستعدادات للانتخابات التشريعية في أغسطس/آب المقبل، والتي ستشهد المواجهة الأولى بين رئيس الوزراء آبي أحمد وحزبه "الرفاه/الازدهار" وبين قومية التغراي التي رفضت الانضمام للحزب ولا تزال حركتها السياسية هي أبرز المعارضين على الساحة المحلية للتوصل إلى اتفاق حول السد.
وأضافت المصادر المصرية أنه في مواجهة الضغوط المستمرة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب على آبي أحمد "لإنهاء مفاوضات سد النهضة بإعلان اتفاق لا يحقق بالتأكيد كل ما يطلبه كل طرف لكنه سيضمن حقّ إثيوبيا في التنمية السريعة"، فإن أحمد "يخوّف المصريين والأميركيين من أن إعلان الاتفاق في الوقت الحالي قد يخفض شعبيته لأدنى مستوى لها".
وذكرت المصادر أن "تخويف أحمد للأطراف المختلفة يرتكز على أن بقاءه في السلطة وفوز حزبه في الانتخابات المقبلة هو الضامن الوحيد لتنفيذ أي اتفاقات بشأن السد مع مصر والسودان". لكن في المقابل ترى مصر أن الانتظار إلى ما بعد الانتخابات الإثيوبية أو الإرجاء حتى للصيف المقبل، يعتبر "غير مقبول" بالنظر للخطة الإثيوبية التي تمّ إعلانها من قبل بالبدء في ملء السد في يوليو/ تموز المقبل. ويأتي ذلك خصوصاً في حين أن مصر ترغب في أن يتم الملء بدءاً من العام الحالي، وبأسرع وقت، لاستغلال سنوات الفيضان والرخاء، كحلٍّ أفضل من الانتظار والإرجاء لسنوات لا يمكن التنبؤ حالياً بحجم فيضان النيل فيها.
وتأتي المحاولات الإثيوبية للإرجاء في ظلّ دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي للتظاهر ضد أحمد، وتداول شائعات على نطاق واسع في الشارع الإثيوبي، وأوساط المعارضة في الخارج والمغتربين، تركز على أن أحمد - المنتمي لقومية الأورومو - يقدم مصالح مصر والولايات المتحدة على المصالح الإثيوبية، ويعطل إنجاز مشروع السد. وتأتي هذه الدعوات على الرغم من أن الحقيقة هي أنه لولا الثورة الإدارية والأمنية التي قام بها أحمد فور وصوله للسلطة، لما كان السد قد بلغ هذه المستويات المتقدمة من الإنشاءات، بعد إبطاء لسنوات عدة بسبب سوء الإدارة والفساد.
وسبق أن كشفت مصادر دبلوماسية مصرية لـ"العربي الجديد" نهاية الأسبوع الماضي، أن الأفكار والمقترحات الأميركية للحلّ لا تزال تواجه عراقيل بسبب رفض المصريين والإثيوبيين العديد من تفاصيلها. وأوضحت المصادر أن هذه المفاوضات دارت تحديداً حول أمرين اثنين: أولهما ضمان تمرير 37 مليار متر مكعب من المياه لمصر في أوقات الملء والجفاف، كرقم وسط بين ما تطالب به مصر، وهو 40 مليار متر مكعب، وما تطالب به إثيوبيا وهو 35 مليار متر مكعب في فترات الملء، و32 مليار متر مكعب في فترات الجفاف.
أما الأمر الثاني، فهو ضبط آلية محددة للتنسيق بين مصر والسودان وإثيوبيا في إدارة فترة الملء الأول، بحيث يتم السماح لمصر بالمطالبة باتخاذ التدابير الاستثنائية بناءً على مؤشرات مقياس فيضان النيل الأزرق بدلاً من مؤشرات السد العالي. ولا تزال ترى إثيوبيا من جهتها أن هذا الأمر سيمنعها من تنفيذ جدول ملء محدود للغاية زمنياً، لا يزيد على 7 سنوات لملء السد بشكل كامل ومستديم، لإنتاج أكبر قدر من الكهرباء والحفاظ على وتيرة الإنتاج في الفترة بين صيف 2021 وخريف 2026.
وترفض مصر هذا السيناريو وتتمسك بالقياس على مؤشرات السد العالي في أسوان، ليس فقط للحفاظ على مرونة المنظومة المائية لمواجهة الظروف القاسية التي قد تنشأ عن ملء وتشغيل سد النهضة، بل أيضاً لمنع الخروج المبكر لمساحات زراعية شاسعة من الخطة المحلية لزراعة المحاصيل الاستراتيجية، خاصة أن نصيب مصر الصافي من المياه يقل بنحو 21 مليار متر مكعب في السنة عن حاجتها المثلى، الأمر الذي ترفضه إثيوبيا بحجة أن الحفاظ على منسوب المياه في بحيرة ناصر عند 165 أو 170 مترا قد يؤدي إلى حرمانها من إمكانية الملء لشهور عديدة متتابعة، نظراً لتدني مستوى الفيضان في بعض الأحيان إلى أقل من 30 مليار متر مكعب. وترى أديس أبابا بالتالي أن المحددات لا يمكن أن تقاس بأي مؤشر في دولة المصب.