سبها المثقلة بالأزمات: نافذة السيطرة على الجنوب الليبي

06 فبراير 2019
شهدت سبها مواجهات عدة بين القبائل بعد الثورة(فرانس برس)
+ الخط -
لطالما كانت مدينة سبها الليبية محطّ أطماع محلية وخارجية، بما جعلها مثقلة بالأزمات منذ فترات طويلة؛ فهذه المدينة التي تُعتبر عاصمة الجنوب الليبي، غنية بمواقع النفط والغاز، وحولها تنتشر العديد من القواعد العسكرية الاستراتيجية، كما أنها تمتد على مساحة شاسعة وتشرف على حدود دول عدة، لتصبح هدفاً لكل الأنظمة التي مرت على البلاد، ويكون اللواء خليفة حفتر آخر من يسعى لبسط سيطرته على المدينة الاستراتيجية، وينجح في تحقيق ذلك قبل أيام ضمن حملته العسكرية الجديدة التي أطلقها في الجنوب منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، مستهدفاً عبرها تحقيق أهداف محلية وإقليمية ودولية. ولكن ما الذي جعل سبها تستحوذ على كل هذا الاهتمام منذ سنوات بعيدة؟

منطلق لحكم القذافي

زادت أهمية سبها كقاعدة لحكم الجنوب الليبي مع اكتشاف مواقع النفط والغاز في المنطقة، مما جعلها ذات أهمية كبيرة بالنسبة للعقيد الراحل معمر القذافي، الذي حرص على أن تكون منطلقاً لانقلابه العسكري الذي أطاح بالحكم الملكي، إضافة إلى حرصه، منذ الثمانينيات، على توطيد علاقاته مع القبائل الكبرى في الجنوب التي ساهمت بشكل كبير في تأمين المنطقة لصالحه.
وانطلاقاً من سبها، بدأ نظام القذافي حملته العسكرية مطلع الثمانينات من أجل السيطرة على قطاع أوزو الواقع في الجزء الغربي من الحدود مع تشاد، قبل أن يتوسع إلى داخل العمق التشادي، وصولاً إلى العاصمة أنجامينا. وعلى الرغم من أن الحملة كانت بقيادة خليفة حفتر، أبرز قادة قوات القذافي وقتها ورفيقه في الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكم الملكي عام 1969، إلا أن قبائل الجنوب شكّلت الخزان البشري لدعم تلك الحملة بالمقاتلين. واستغل القذافي حينها الخلافات التاريخية بين قبائل الجنوب المتمثّلة بنعرات قديمة بين أغلب القبائل وقبائل التبو التي تمتد أراضيها إلى داخل تشاد. وبعد فشل حملة القذافي العسكرية على تشاد، اعتمد على تأسيس علاقات وطيدة بزعامات قبائل الجنوب، الطوارق والحساونة والمحاميد وورفلة، وغيرها، لتساهم تلك القبائل إلى حد كبير في ضبط الحدود بسبب عيشها في مناطق متاخمة لها. أما علاقاته مع التبو، فتأخرت حتى العقد الماضي من القرن الحالي، حيث منح المئات من التبو ما عُرف بـ"الجنسية العربية"، من دون أن يعترف بأنهم ليبيون، ومكّنهم من السكن في تجمّعات صغيرة متفرقة في مناطق متعددة، وأن ينفردوا بالسيطرة على مناطق خاصة بهم.

بعد سقوط نظام القذافي عام 2011، عاش الجنوب الليبي حالة من الفوضى الأمنية بسبب وقوعه بعيداً عن مجالات التجاذبات السياسية بين الغرب والشرق في الشمال الليبي. لكن سرعان ما وجدت النعرات القبلية طريقها إلى الجنوب، فحاولت قبيلة أولاد سليمان، التي كانت تشكل محور الحكم في العهد الملكي، استرجاع مكانتها على حساب قبيلة القذاذفة التي أخذت مكانها. كما حاول التبو أيضاً العودة إلى المشهد، واندلع أول قتال في مارس/آذار 2012 في سبها بعد إقدام أحد أبناء التبو على قتل رجل من أبناء قبيلة أولاد سليمان. وتوسعت رقعة القتال لتشمل أغلب الأحياء التي يسكنها التبو في سبها، والتي هاجمتها مليشيات أولاد سليمان وحلفاؤها من القبائل العربية الأخرى، وكانت حصيلة ذلك ما يقارب 150 قتيلاً وتدمير نحو 100 منزل من منازل التبو.

وتمكّنت سلطات المجلس الوطني الانتقالي، أول سلطة بعد سقوط نظام القذافي، من فرض هدنة بين الطرفين، ونشر قوات من عدة مدن من الشرق الليبي. لكن في تلك الفترة، كانت قبيلتا أولاد سليمان والتبو، اللتان كونتا حلفاً مسلحاً ضد نظام القذافي أيام الثورة في 2011، تسعى كل منهما للسيطرة على مواقع عسكرية في سبها، واتجهتا إلى خارجها للسيطرة على طرق التهريب جنوباً وصولاً إلى الحدود مع السودان وتشاد، لينتهي ذلك إلى تجدد الصدام بين القبيلتين، وتحديداً مطلع عام 2014، عندما نفذ مسلحو التبو هجوماً على مواقع أولاد سليمان، بعد عقدهم تحالفات جديدة، أبرزها تحالفهم مع القذاذفة، فسيطروا على نقاط مهمة خارج سبها، من بينها قاعدة تمنهنت، بينما عزز عناصر أولاد سليمان وجودهم في مواقع جديدة داخل سبها من بينها القلعة المطلة على كل المدينة.


دوامة العنف التي دخلتها المدينة دفعت المؤتمر الوطني العام، ثاني سلطات البلاد بعد سقوط نظام القذافي، إلى إرسال قوة لبسط الأمن في سبها، عُرفت باسم القوة الثالثة، وتألف أغلب أفرادها من مصراتة، لكن هذه القوة وجدت نفسها في أتون الخلافات، وانحازت أكثر من مرة لأحد الأطراف، من دون أن تتمكن من بسط الأمن في المدينة.

في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 تجدد القتال إثر إقدام أحد أبناء القذاذفة على إهانة سيدة من قبيلة أولاد سليمان، ما دفع الأخيرة للثأر بقتل ثلاثة من القذاذفة. وتصاعد الموقف ليصل القتال إلى استخدام الدبابات والراجمات، وتسبّب في مقتل ما يزيد عن المائة شخص من الطرفين. لكن المدينة وقتها كانت تعيش على وقع انقسام جديد بسبب دخول اللواء خليفة حفتر على خط المشهد في البلاد، فمنذ العام 2015 تحالف حفتر مع التبو، ضد قبائل أولاد سليمان المسيطرة فعلياً على سبها والمقربة من القوة الثالثة. وعلى الرغم من بقاء المشهد في حالة حذر معظم الوقت، إلا أن الفوضى الأمنية كانت تتسع لتصل إلى أغلب مناطق الجنوب، الذي تحوّل منذ منتصف عام 2014 إلى محل اهتمام دولي، كونه الساحة الأولى لتهريب البشر باتجاه سواحل ليبيا الشمالية وصولاً إلى شواطئ أوروبا، بل الاتجار فيهم أيضاً، إذ تحوّلت سبها إلى قاعدة للتهريب، وفيها عقدت أسواق لبيع البشر، كما أظهر فيديو نشرته قناة "سي إن إن".

أهداف حفتر
تُعتبر سبها مفتاحاً لأي تحالف قبلي في الجنوب، كونها المدينة التي تضم أكبر تمثيل لقبائل الجنوب، وتعيش فيها زعامات هذه القبائل التي تسعى كل منها للسيطرة على جزء من المدينة لإظهار قوتها ووجودها في الجنوب. ومع سعي حفتر للسيطرة على الجنوب وحاجته للتحالف مع القبائل القوية، اتجه في الآونة الأخيرة إلى فك تحالفه مع التبو، والسعي لتحالفات جديدة مع قبائل أكثر قوة ونفوذاً في سبها، لا سيما أولاد سليمان والقذاذفة والمقارحة، وأطياف أخرى كالزوية والمحاميد. كما أن أسباباً أخرى دفعت حفتر لنفض يده من حلف التبو، وأبرزها ارتباط الأخيرة بالحركات التشادية المتمردة التي تنحدر من جذور قبلية تربطها بالتبو، ما دفع القبيلة لاستضافتها في مناطق سيطرتها في مرزق وتراغن والقطرون.

وكانت أولى خطوات حفتر، خلال عمليته الجديدة في الجنوب التي أطلقها منتصف شهر يناير/كانون الثاني الماضي، هي السيطرة على سبها، فنجح قبل أيام في ذلك من دون حسم هذا السيطرة نهائياً، إذ إن تفكيك التحالفات الداخلية في المدينة أمر صعب ويحتاج لوقت أطول، ولا يزال التبو على صلة طيبة مع القذاذفة وأطياف قبلية أخرى صغيرة.
وتشكّل السيطرة على سبها بالنسبة لحفتر أهمية كبيرة، فالأراضي التي تضم منابع النفط في السرير وتازربو، ومنابع المياه المهمة لمدن الشمال، وقواعد لويغ والجفرة وواو الناموس، كلها تخضع لسيطرة قبائل زعاماتها في سبها، التي تُعتبر بالنسبة لهم عاصمة الجنوب، وهي قبائل الحساونة والزوية والمحاميد. كما أن تحالفه مع هذه القبائل ومنحها امتيازات ومراكز داخل قواته، يتيح له الاستفادة الفصوى من خزانها البشري لدعم حربه على التبو لإخضاعها، ليبقى هدفه الأبرز المواقع الاستراتيجية في الجنوب، وتحديداً حوض مرزق الغني بالغاز والذي تتوجّه إليه أنظار دول كبرى كفرنسا.

كما أن لعبة التحالفات القبلية التي يعمل عليها حفتر انطلاقاً من سبها، توفر له الفرصة لإقناع دول جوار مهمة، كالجزائر وتشاد، ودول كبرى كإيطاليا التي تنافس فرنسا في التواجد جنوباً، بأنه الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاوزه في أي تسوية سياسية، بل وبإمكانية انفراده بالحكم في البلاد، بسبب تمكّنه من السيطرة على مواقع الطاقة المهمة بالنسبة للعالم، ومواقع استراتيجية عسكرية مهمة في مكافحة الإرهاب والحد من موجهات الهجرة غير الشرعية باتجاه أوروبا.