مشروع "تبييض الاستيطان"... الاحتلال يسابق الزمن لشرعنة سرقة الأراضي

15 نوفمبر 2016
مستوطنة على أراضي قرية النبي صالح (عصام الريماوي/الأناضول)
+ الخط -
لا يخفي رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، مخاوفه من قيام الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض بتحرك سواء كان أميركياً مباشراً، أم من خلال دعم مبادرات أخرى (كالمبادرة الفرنسية)، ما من شأنه أن يمهد الطريق أمام إصدار قرار أممي في مجلس الأمن ضد الاستيطان الإسرائيلي ولصالح مفاوضات أو رعاية دولية لمفاوضات مع الفلسطينيين.

لكن نتنياهو لا يحظى، في إدارته لهذا الملف أو للتحرك المتوقع من أوباما، بدعم أو مناصرة حقيقية من شركائه في الائتلاف، تحديداً من "البيت اليهودي" الذي يمثل حركة التيار الديني الصهيوني الاستيطانية، على الرغم من وجهة النظر الإسرائيلية التي تتوقع تداعيات خطيرة لمثل هذا التحرك، خصوصاً لجهة إعطاء ضوء أخضر لفرض عقوبات على إسرائيل.

وتتفاقم أزمة نتنياهو بشكل أكبر على أثر مظاهر الاحتفاء والانتشاء التي أبداها تيار المستوطنين في الحكومة الإسرائيلية عقب فوز دونالد ترامب في السباق الانتخابي الأميركي، في عدم حصول رئيس حكومة الاحتلال مؤقتاً على دعم أو تفهم من قطاع تيار المستوطنين الذين يمثلهم حزب البيت اليهودي في الحكومة. ويضاف إلى ذلك التأثير النافذ الذي يمتلكونه داخل مركز الليكود لدرجة قدرتهم على تحديد قائمة مرشحي الليكود للكنيست، ومعاقبة من يقف في طريقهم، كما فعلوا في الانتخابات الأخيرة عندما أفشلوا عناصر بارزة في الليكود مثل الوزيرين السابقين، دان مريدور وبني بيغن، نجل زعيم الليكود تاريخياً، مناخيم بيغن، لأنهما اعترضا على بعض ممارسات ومواقف المستوطنين.
ويحاول نتنياهو تخطي الشهرين المقبلين لحين انتهاء فترة ولاية باراك أوباما في البيت الأبيض، عبر محاولة عدم استفزاز الأخير. وقد دفع هذا الأمر بنتنياهو مثلاً إلى الإيعاز لوزراء حكومته أول من أمس بعدم الإدلاء بأي تصريحات حول نتائج الانتخابات الأميركية أو تصورات للعلاقات الإسرائيلية - الأميركية المستقبلية. في موازاة ذلك، يجد رئيس الحكومة الإسرائيلية نفسه مضطراً لخوض حرب للحفاظ على صورته ومصداقيته كداعم للاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مقابل حرب إعلامية وتحدي كبيرين وضعهما أمامه زعيم البيت اليهودي، نفتالي بينت، في مسألة مصادقة اللجنة الوزارية التشريعية على مقترح قانون "تسوية البؤر الاستيطانية" وعرض الاقتراح على اللجنة والتصويت عليه، غداً الأربعاء، في الكنيست. وينص مشروع القانون على منع هدم البيوت التي تمت إقامتها في المستوطنات على أراض فلسطينية خاصة، وبدلاً من ذلك دفع تعويضات بقيمة 120 في المائة من سعر الأرض لأصحابها الفلسطينيين أو تعويضهم بأراض بديلة.
وقد تمكن بينت من تمرير القرار في اللجنة خلافاً لرغبة نتنياهو. وفيما تغيب وزراء الأحزاب الشريكة في الائتلاف الحكومي، مثل حزب يسرائيل بيتينو بقيادة أفيغدور ليبرمان، وحزب شاس، وحزب يهدوت هتوراة، وحزب كولانو، عن الجلسة حتى لا يصوتوا ضد موقف نتنياهو، فقد صوت خمسة من وزراء الليكود في اللجنة لصالح القرار جنباً إلى جنب مع بينت وأيليت شاكيد، وهو ما شكل انتصاراً واضحاً لبينت على نتنياهو.
وعلى الرغم من أن مشروع القانون سيعرض للتصويت عليه في الكنيست في القراءة التمهيدية، غداً الأربعاء، مع احتمال ضعيف بأن يُقدِم نتنياهو على "حرق القانون"، إلا أن ملف "تسوية البؤر الاستيطانية" وتحديداً "عاموناه" (للحيلولة من دون تنفيذ قرار المحكمة الإسرائيلية العليا بهدم نحو ثمانية مبانٍ تبين أنها أقيمت على أراض فلسطينية) يعكس في واقع الحال محاولة تضليل هائلة تقوم بها حكومات الاحتلال في كل ما يتعلق بملف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من خلال محاولة الإقرار بوجود "بؤر استيطانية غير قانونية" مقابل مستوطنات كاملة تقوم على نحو 38 في المائة من أراضي الضفة الغربية المحتلة، بحسب تقرير رسمي لحركة السلام الآن الإسرائيلية من العام 2006، والذي لا يشمل مساحة المستوطنات التي أقيمت بعد ذلك التاريخ.

وتعود بدايات الملف إلى محاولة الاحتلال، منذ أوائل حركة الاستيطان في سبسطيا عام 1974، تطويع القانون الدولي وتزييف الحقائق لتكريس الاستيطان، عبر إيجاد مبرر قانوني وقرارات قضائية تقر بشرعية مستوطنات وأخرى تدين الاستيطان غير "القانوني"، وفق القرار الشهير للمحكمة الإسرائيلية العليا في أكتوبر 1979، بتفكيك مستوطنة ألون موريه، جنوب شرقي نابلس، لأنها أقيمت "على أراض بملكية خاصة". وهو نفس السند القانوني الذي استندت إليه نفس المحكمة قبل عامين عندما أصدرت قرارها النهائي بوجوب هدم المباني التي أقيمت في البؤرة الاستيطانية "عاموناه"، وتبين أنها تقوم على أراضٍ بملكية خاصة وحددت المحكمة موعد 25 ديسمبر/كانون الأول المقبل كموعد نهائي لتنفيذ عملية الهدم. وردت المحكمة أمس طلباً قدمته الحكومة الإسرائيلية الأسبوع الماضي بتأجيل موعد هدم هذه البيوت سبعة أشهر بحجة البحث عن حل بديل وترتيب مسألة إخلاء البؤرة الاسيتطانية.

وعلى الرغم من أن حركات وهيئات حقوقية في إسرائيل تستند إلى هذا القرار، إلا أنها تقع عملياً وتساهم في عملية تضليل عامة توحي أن ما بني على أراض غير خاصة يعد مستوطنات شرعية، كما هو مثلاً حال مستوطنات كبيرة مثل أريئيل، ومعاليه أدوميم، وغيرها من المستوطنات التي يدعي الاحتلال، أنها أقيمت على أراضي دولة. ويحدث ذلك بعد التحايل الإسرائيلي على القانون، واعتبار أراضي "الميري"، حسب تعريف القانون العثماني، التي كانت مصنفة كذلك تحت الحكم الأردني، أراضي دولة، إضافة إلى بناء كثير من المستوطنات في البداية في أوساط السبعينات، باعتبارها حول الثكنات العسكرية للجيش الإسرائيلي وإلى جانبها، بعد مصادرة أراض بحجة حاجة الجيش لها لأسباب أمنية وعسكرية، وهو ما وفّر للمحاكم الإسرائيلية، "دفعاً بالغيب" وسنداً قانونياً لإقرار عمليات المصادرات.
ولعله من المفيد في هذا السياق الإشارة إلى ما جاء في كتاب عن سيرة شارون وضعه محرر هآرتس السابق، دافيد لنداو، والذي أوضح أن من أول الخطوات التي قام بها شارون فور سقوط الضفة الغربية في أيدي إسرائيل، عندما كان مسؤولاً في جيش الاحتلال عن الكليات العسكرية، هو أمره بنقل كافة كليات الإرشاد والتدريب العسكرية إلى داخل الضفة الغربية المحتلة، ووضعها في ثكنات وقواعد الجيش الأردني وذلك لسد الطريق أمام التخبطات في صفوف الحكومة الإسرائيلية بشأن مستقبل الضفة الغربية، بعيد صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242.
وأورد الكتاب أن شارون "تمكن خلال أشهر معدودة من نقل عدد غير قليل من قواعد التدريب التابعة للجيش الإسرائيلي: كلية سلاح المشاة، وكلية الهندسة العسكرية، وكلية الشرطة العسكرية، وجزء من كلية المدفعية، ومركز تدريب المجندين الجدد، إلى الضفة الغربية، مع رفد هذه القواعد والثكنات ببؤر استيطانية صغيرة، على شكل استيطان مدني لتوفير احتياجات القواعد العسكرية. وشكلت هذه الكليات والثكنات، لاحقاً، والتي أقيمت في مواقع استراتيجية، نواة للمستوطنات الكبيرة التي أقيمت في قلب التجمعات الفلسطينية الكثيفة".
وقد استغل شارون يومها البند الذي يتيح في القانون الدولي للجيش المحتل، أن يصادر أراض لأغراض عسكرية، لكنه ومعه الحكومة الإسرائيلية، تم اللجوء إلى تجاوز ذلك. وأصبحت حكومة الاحتلال تتذرع بداية بأن الجماعات الاستيطانية، الصغيرة العدد، "هدفها توفير الخدمات الضرورية للجنود"، وهو التبرير الذي قبلت به المحاكم الإسرائيلية، لكنها سرعان ما بدأت تعلن صراحة عن أن هؤلاء المستوطنين جاؤوا ليبقوا، لا سيما أن توزيعهم يأتي وفق القيود التي فرضتها المحكمة الإسرائيلية العليا، أن لا يكون على أراض خاصة، عبر تجاهل المحاكم الإسرائيلية، لدلالات القانون الدولي بهذا الشأن.

وعلى مدار سنوات الاحتلال، كانت الحكومة الإسرائيلية، لا تأبه بقرارات الاستنكار الدولية والقرارات التي اعتبرت حركة الاستيطان بأنها غير شرعية ومنافية للقانون الدولي، طالما كانت تلك القرارات تظل حبراً على ورق، ولا تتبعها أية خطوات عملية. لكن ملف عاموناه، خصوصاً بعد اعتراف قادة المستوطنين أنفسهم أن هناك أكثر من 2500 بيت أقيم على أراض فلسطينية بملكية خاصة يهدد في ظل التوتر بين حكومة نتنياهو من جهة وبين إدارة أوباما من جهة ثانية، بتعريض إسرائيل لقرارات دولية مناهضة لها اليوم، وهو ما دفع أمس حتى بالوزير الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، إلى التحذير من الإفراط في تحدي المحكمة الإسرائيلية، عبر قانون "تسوية البؤر الاستيطانية"، في المرحلة الحالية، ووجوب تنسيق أية خطوات إسرائيلية بهذا الخصوص مع الإدارة الجديدة في واشنطن.
من جهته، اعتبر رئيس الشاباك السابق، الوزير في الحكومة الإسرائيلية، عامي أيالون، في حديث مع الإذاعة الإسرائيلية، أن المجتمع الدولي، لم يعترف يوماً بشرعية المستوطنات، بل اعتبرها انتهاكاً للقانون الدولي. وأضاف أيالون، أن النشاط المحموم لإقرار قانون "عاموناه" قد يدفع بالمجتمع الدولي، إلى الإعلان عن المستوطنات رسمياً بأنها جرائم حرب، وجرّ إسرائيل بالتالي إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.

وتزيد هذه التعقيدات من أزمة نتنياهو على نحو خاص، بفعل انتصار نيفتالي بينت عليه في تمرير مقترح القانون في اللجنة الوزارية، بسبب التداعيات الانتخابية المستقبلية في حال عمل هو شخصياً على إفشال هذا القانون، من جهة، والخوف من ميراث أميركي مناهض للاستيطان يتركه أوباما في ما تبقى له من وقت في البيت الأبيض، إذا تم فعلاً تمرير القانون رسمياً قبل نهاية ولاية أوباما من جهة ثانية. ولهذا كله يسعى نتنياهو إلى محاولة تأجيل التصويت على القانون وعرقلة تشريعه لكسب الوقت.

المساهمون