أكثر من سبعة ملايين ناخب تونسي سيكونون، اليوم الأحد، أمام اختبار تكريس الديمقراطية التونسية، عبر التوجّه إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيس جديد للبلاد، بعد ثماني سنوات من الثورة التي أنتجت نظاماً ديمقراطياً، بعد نحو 22 عاماً من حكم الرجل الواحد.
الانتخابات الرئاسية المبكرة، التي حُددت بعد وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، تُقدّم فرصة للتونسيين لتقرير مصيرهم، واختيار من يرونه صالحاً لقيادتهم، بين عدد كبير من المرشحين، الذين وصل عددهم إلى 26، قبل إعلان بعضهم الانسحاب، ليكون الشعب أمام اختبار استعادة السلطة. وبعدما نجحت المؤسسات الدستورية في اجتياز أزمة وفاة السبسي، وسارعت للدعوة إلى الانتخابات وفق ما يقتضيه الدستور، إلا أن حدّة المعركة، وتبادل المرشحين اتهامات خطيرة، بالإضافة إلى رصد أموال ومقدرات كبيرة لاستغلال وسائل التواصل الاجتماعي في المعركة، بالتوازي مع الوعود التي بدت أبعد من صلاحيات الرئيس، كلها عوامل طرحت مخاوف من انزلاق هذه المعركة الانتخابية بعيداً عن المسار الديمقراطي الذي يتطلع إليه التونسيون والخارج.
هذه الانتخابات تتزامن مع الاحتفال باليوم العالمي للديمقراطية، وهي صدفة جاءت لتؤكد نهائياً دخول تونس إلى نادي الدول الديمقراطية، بعد أن تمكّنت من إنجاز انتخابات المجلس التأسيسي في 2011، والتي قادت بدورها إلى انتخاب رئيس جديد للبلاد هو المنصف المرزوقي، ثم الانتخابات التشريعية والرئاسية في 2014، فالانتخابات البلدية في 2018، لتتويجها اليوم بانتخابات رئاسية، تليها تشريعية في 6 أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
لكن هذه الانتخابات بالذات تحمل جديداً مهماً، خصوصاً أنها تقررت في مرحلة أزمة خطيرة كان يمكن أن تعصف بمسار طويل، إذ تمت في ساعات قليلة بعد إعلان وفاة السبسي، وتعيين رئيس مؤقت، هو رئيس البرلمان محمد الناصر، ليتقرر في اليوم نفسه تقديم الانتخابات الرئاسية إلى هذا الموعد، ما أثبت صلابة المؤسسات الدستورية التونسية ومناعتها وقدرتها على التعامل مع الأزمات. وقالت عضو الهيئة العليا المستقلة للانتخابات حسناء بن سليمان، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ الاستعدادات للانتخابات جيدة لجهة وصول المواد الانتخابية وتجهيز المكاتب، موضحة أن عدد المسجلين للانتخابات الرئاسية بلغ 7 ملايين و88 ألف ناخب، وأن هذا الرقم مختلف عن الانتخابات التشريعية، مشيرة إلى أن عدد مراكز الاقتراع يبلغ 4 آلاف و567 مركز اقتراع، من بينها 13 ألف مكتب اقتراع، مؤكدة أنه يوجد 304 مراكز اقتراع بالنسبة للخارج، تتضمن 384 مكتب اقتراع. وأشارت إلى أنّ عدد المراقبين يناهز 1200 مندوب، تم انتدابهم من قبل الهيئة، يضاف إليهم 350 منسقاً محلياً، ليرتفع العدد إلى 1550 مراقباً تولوا مراقبة الحملة طيلة الفترة الانتخابية، وكذلك سيعاينون المخالفات يوم الصمت الانتخابي ويوم الانتخابات. كما تمت الاستعانة برؤساء وأعضاء مكاتب الاقتراع، فهم أيضاً مؤهلون لمعاينة المخالفات التي ستقع داخل مراكز الاقتراع وفي محيطها.
لكن هذه الانتخابات تطرح أسئلة كثيرة في الوقت نفسه على التونسيين جميعاً، ونُخبهم السياسية والحزبية خصوصاً، مع دخول البلاد مرحلة جديدة من الصراع الانتخابي يقوم على التمييز الشخصي بين المرشحين وأساليبهم، تجلى بوضوح بعد إنجاز أول مناظرات تلفزيونية بين كل المرشحين، باستثناء اثنين، هما نبيل القروي وسليم الرياحي، إذ يقبع الأول في السجن رهن الإيقاف، والثاني خارج البلاد بسبب ملاحقات قضائية أيضاً.
وتميّزت الحملة الانتخابية بحدّتها السياسية، على الرغم من أن البعض اعتبرها أقل من تلك التي شهدتها انتخابات 2014 بين السبسي والمنصف المرزوقي من جهة، وبين "النهضة" و"نداء تونس" من جهة أخرى. وتابع التونسيون عملية كسر عظم في الأيام الأخيرة بين مرشحين من عائلة سياسية واحدة، إذ تصاعدت اللهجة، خصوصاً بين زعيم حركة "النهضة" راشد الغنوشي والمرزوقي من جهة، وبين رئيس الحكومة يوسف الشاهد ووزير الدفاع المستقيل عبد الكريم الزبيدي من جهة أخرى، فيما تواصل خلاف العائلة اليسارية بمرشحيها الثلاثة، منجي الرحوي وحمة الهمامي وعبيد البريكي، وإن كان بحدة أقل، بعد أن استنزفوا بعضهم وتفرقوا قبل الانتخابات.
وفيما قام الصراع بين الغنوشي والمرزوقي حول من يمثّل المعسكر الثوري، احتد الخلاف بين الشاهد ووزير دفاعه المستقيل عبد الكريم الزبيدي حول العائلة الوسطية، وتواصل إلى آخر لحظة من عمر الحملة الانتخابية مساء الجمعة، إذ كان الزبيدي يوجّه سهامه إلى منافسه عبر قناة "الحوار التونسي"، بينما كان الثاني يستميت في الدفاع عن حظوظه في القناة التاسعة. ويلمح كثيرون إلى أن الجميع يراهن على المركز الثاني المؤهل إلى الدور الثاني، خلف نبيل القروي الذي يتصدر التوقعات، إن صحت ولم تكن مجرد استراتيجيات بغرض التشتيت الانتخابي. لكنها إن حدثت، فستكون بالفعل بمثابة الزلزال السياسي الذي سيضرب الجميع وسيُسقط كل الحسابات المنطقية في عالم السياسة، وسيُدخل البلاد والتجربة في أزمة حقيقية، إذ إنها ستكون أول انتخابات ينتصر فيها مرشح من داخل السجن ولم يُشارك في حملته الانتخابية. هذا يعني أن هناك مأزقاً قانونياً آتياً، وأن هناك قواعد انتخابية تقليدية سقطت أمام استراتيجيات جديدة.
وكسب الزبيدي بعض النقاط على حساب منافسيه، حين أُعلن، في ساعة متأخرة من ليلة الجمعة، عن انسحاب زعيم حزب "مشروع تونس" محسن مرزوق، والمرشح الموجود في فرنسا هرباً من ملاحقات قضائية سليم الرياحي، من السباق الرئاسي، لصالح الزبيدي. وأكد مرزوق، في تصريح صحافي، أنه رأى أنه من الصالح، إثر اجتماع للمكتب السياسي لحركة "مشروع تونس"، إيقاف حملته الرئاسية والدعوة إلى التصويت لصالح المرشح المستقل الزبيدي. واعتبر أن "هذه الخطوة تقدّم المصلحة العامة أمام المصلحة الخاصة، وتهدف إلى عدم تشتت الأصوات، خصوصاً في ظل صعود قوى متطرفة وشعبوية تهدد سلامة ووحدة الدولة ومكاسبها العصرية". وشدد مرزوق على أن "الزبيدي في حال صعوده للرئاسة سيكون رئيساً قادراً على تجنب المشاكل والصراعات". من جهته، أعلن سليم الرياحي، في مقطع فيديو بثه من فرنسا عبر صفحته الرسمية على موقع "فيسبوك"، أنه قرر الانسحاب لصالح الزبيدي، داعياً أنصاره في حزبه "الوطن الجديد"، وحزب "الاتحاد الوطني الحر" المنحل، ومن مناصريه في حزب "نداء تونس"، للتصويت للزبيدي، الذي اعتبره نموذجاً لنظافة اليد والوفاء لخط السبسي. وعلى الرغم من أن انسحاب مرزوق يمكن أن يكون مفيداً للزبيدي، بحكم انتمائه للعائلة الوسطية الحداثية، إلا أن تأثيره سيكون نسبياً، لأن رصيده الانتخابي محدود، لكنه انسحاب مهم في التوقيت الحساس، بينما يمكن أن يكون لانسحاب الرياحي تأثيرات سلبية على الزبيدي الذي يتقدّم كمرشح نظيف اليد وتقدّم لمحاربة المهربين وقطاع الطرق كما يصفهم، فيما الرياحي هارب إلى فرنسا بسبب ملاحقات قضائية تتعلق أساساً بقضايا مالية.
بالتوازي مع هذه الحدة في المواقف، برز أمام التونسيين بوضوح انحياز بعض وسائل الاعلام المؤثرة لهذا المرشح أو ذاك. وتسللت عمليات سبر الآراء، الممنوعة قانونياً أثناء الحملة، إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ورُصدت أموال ضخمة لاستعمال هذا الفضاء بهدف حسم معركة التواصل، وتبادل المتنافسون اتهامات خطيرة، ما طرح أسئلة حول طبيعة هذا المسار الديمقراطي، وإن كان جميلاً من الخارج ومهترئاً من الداخل، بينما اعتبر كثيرون أنه أمر عادي يتعلق بطبيعة الحملات الانتخابية التي تتشابه في كل التجارب والبلدان، وحتى العريقة منها.
ولاحظت الجمعية التونسية من أجل نزاهة وشفافية الانتخابات (عتيد) انتشار عدد من الاستبيانات ونتائج استطلاعات الرأي على مواقع التواصل الاجتماعي، واعتبرتها مؤشراً خطيراً على تواصل عملية توجيه الناخبين الممنوعة قانوناً. وقالت رئيسة الجمعية ليلى الشرايبي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنه تمت ملاحظة تداول نتائج لعمليات سبر آراء مجهولة المصدر، أو أخرى أعدتها شركات مختصة، في خرق واضح للقانون الانتخابي. ونددت الشرايبي بإصرار من يقف وراء تداول هذه النتائج بغرض التأثير على الناخبين، عبر توجيههم نحو خيارات محددة، بدعوى أنها متقدمة في سبر الآراء، وأن ثقلها الانتخابي هام، ما من شأنه أن يؤثر على إرادة الناخبين ويوجههم نحو التصويت لأسماء معيّنة. وطالبت بضرورة الالتزام بالضوابط التي وضعتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وبمقتضيات القانون الانتخابي، مشيرة إلى أن الهيئة لها مطلق الصلاحيات لضمان سلامة المسار الانتخابي، وهي مدعوة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة تجاه ذلك. ولفتت إلى أن دور الهيئة أن تعاقب مصادر هذه الاستبيانات، وتطبيق القانون على شركات سبر الآراء التي قامت بها ونشرتها خلال فترة الحملة، أو على الأشخاص الذين يروجون لها، خصوصاً أن بعضهم أعضاء في الحملات الانتخابية لبعض المرشحين.
من جهته، قال رئيس جمعية شبكة "مراقبون" محمد مرزوق، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ التقرير الذي أنجزته شبكة "مراقبون" ركز على الحملات الانتخابية عبر شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، موضحاً أنه بتحليل بعض العينات للحملات الانتخابية والتفاعلات عبر "فيسبوك" تبين أنها لم تؤثر على الناخب الواثق من اختياره ولم تغير رأيه، لكن التأثير كان كبيراً على المواطن الحائر الذي لا يعرف لمن سيصوت. ولفت إلى أنه يمكن الحديث عن 3 أنماط للسلوك الانتخابي للمواطنين في شبكات التواصل الاجتماعي، فهناك "الناخب الاستراتيجي"، و"الناخب الحائر"، و"الناخب المستقر" الذي لا يغير أفكاره بخصوص مرشحه. وأوضح مرزوق أنه مهما كان تأثير "فيسبوك" إلا أنه محدود مقارنة بالإعلام التقليدي، الذي يبقى المؤثر المباشر، مشيراً إلى أن التقرير النهائي في ختام الحملة الانتخابية سيبرز بعض الجوانب الأخرى في نشاط المرشحين عبر صفحات التواصل الاجتماعي. ولفت إلى أنهم تولوا ترتيب المرشحين الـ26 بحسب الأكثر نشاطاً أو الأقل عبر صفحات التواصل الاجتماعي، وهذا الترتيب لا يعني التأثير، فهناك ترتيب يهم الانتشار، وآخر يخص التأثير، ومن بين المرشحين من لم يبرزوا إعلامياً، لكن تأثيرهم عبر "فيسبوك" كان واضحاً. وأوضح مرزوق أنهم أخذوا عينة تتكون من ألف مواطن ناشط على "فيسبوك"، ورصدوا مليوني تفاعل وتعليق، وتولوا تحليلها بحسب حملات المرشحين، مشيراً إلى أن الإذاعات تبقى هي المؤثر رقم واحد، إضافة إلى التلفاز، فيما لا يوجد ارتباط وثيق بين عدد المعجبين في "فيسبوك" مع تفاعلات الجمهور، إذ تبيّن أن هناك مرشحين لديهم أكثر من مليون معجب، لكن تأثيرهم المباشر في الصفحات لم يكن كبيراً. وذكر مرزوق أنه "لوحظ أيضاً تفاوت كبير في استعمال التمويل عبر صفحات فيسبوك، فالبعض استعمل فيسبوك للحملة الانتخابية وكان التمويل المعتمد كبيراً، وآخرون ارتبط حضورهم بالتفاعل العفوي مع الجمهور".
عموماً تبدو هذه الانتخابات جديدة على التونسيين، إذ تخلصت من الشعارات القديمة، وركزت بشكل خاص على هموم التونسيين وأولوياتهم الاقتصادية والاجتماعية، على الرغم من أن كلاماً كثيراً قاله المرشحون لا يمت بصلة إلى مهام الرئيس وصلاحياته، وكان بعضهم يتحدث عن نظام رئاسي، ويتوهم قدرات غير متاحة تمكن من تنفيذ أوهام دبلوماسية ومشاريع تنموية خيالية، بينما يعرفون جيداً أن ذلك غير متاح، لكنه كان مجرد تسويق لشعارات انتخابية فقط. وشهدت آخر أيام الحملة عودة للشعارات القديمة، النظام الجديد والقديم والأفكار الدينية، ربما لقدرتها على الشحن الجماهيري الضروري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بالنسبة إلى بعض المرشحين.