العقاب المؤجل:الفساد في تونس يجد مظلّات جديدة بعد الثورة

15 فبراير 2016
احتجاجات انطلقت رفضاً للفساد والمحسوبية (فتحي بلعيد/ فرانس برس)
+ الخط -
لم يكن الظلم الاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي يتعرّض له العديد من المناطق في تونس، وارتفاع نسبة الفقر وتآكل الطبقة الوسطى، والبطالة، الدوافع الوحيدة لموجة الاحتجاجات التي شهدتها البلاد أواخر شهر يناير/ كانون الثاني الماضي. ورغم تراجع حدّة المواجهات، إلا أنّ الاحتقان ما زال على أشدّه، خصوصاً مع تجاهل الحكومة في سلسلة القرارات التي اتخذتها، مسألة القضاء على الفساد ومحاسبة الفاسدين. فالأزمة الاقتصاديّة التي تعيشها تونس منذ سنوات لم تكن سوى نتيجة حتمية لتراكمات عقود من الفساد والإفلات من المحاسبة والعقاب.
"الفساد المالي والإداري لم ينتهِ بعد الثورة، بل وجد غطاءً سياسيّاً مع كلّ حكومة جديدة"، وفق ما يؤكده الخبير الاقتصادي محمد ياسين السوسي. ويقول: "استغل بن علي السلطة التنفيذيّة ليفتح جميع الأبواب أمام حاشيته، عبر اعتماد الثالوث المكوّن من الديكتاتوريّة، العصا الأمنيّة الغليظة، والفساد الإداريّ بالإضافة إلى السيطرة على المنظومة القضائيّة والتشريعيّة. وبعد رحيل بن علي، لم تعمل الحكومات ما بعد الثورة على إحداث تغييرات أو إصلاحات جذريّة في النسيج الاقتصادي المنهك بالفساد. بل قدّمت جميعها تصوّرات تتمحور حول خصخصة المؤسّسات العموميّة، وتقليص دور الدولة الاقتصادي والاجتماعيّ، وحلّ المشاكل التي تعاني منها مختلف القطاعات عبر الاستدانة والاقتراض بنسب فائدة عالية حتّى بلغت أقساط الديون التونسيّة ما يناهز 54% من الناتج المحليّ الخام للبلاد".
ويشير السوسي إلى أن الثورة عزّزت من تدخّل رجال الأعمال في الحياة السياسيّة، بعد أن كانوا خاضعين للمسؤولين السياسيّين، وهو ما أثبتته نتائج الانتخابات، حيث حاز هؤلاء على 10% من جملة المقاعد النيابيّة، كما فُتحت لهم أبواب الأحزاب الطامعة في تمويلهم الماديّ مقابل توفير التغطية السياسيّة لهم.

ويختم السوسي قائلاً: "إن التحالف الجديد بين السلطة السياسيّة وطبقة رجال الأعمال خلق مناخاً عاماً من الفساد وانعدام الشفافيّة وأغلق كلّ السبل للإصلاح والمحاسبة، نظراَ لتقاطع المصالح بين السياسيّين والمستثمرين".

جرائم اقتصادية 

وفي السياق ذاته، يشير الخبير الاقتصادي عبد الجليل البدوي، إلى أنّ التحرّكات السلطوية نحو طمس الجرائم الاقتصاديّة والالتفاف على حقّ الشعب في محاسبة سارقي قوته وعرقه، تكثّفت بعد الانتخابات الأخيرة، حيث سعت السلطة إلى التغطية على منظومة الفساد، ومنع تفكيكها ومعالجة أسبابها. ويقول البدوي: "لا شك أن التغاضي عن مكافحة الفساد يُعدّ انتهاكاً صارخاً لمبدأ المحاسبة واسترداد حق المتضرّرين، سواء كانوا من الأفراد أو الدولة نفسها، نتيجة إهدار المال العام وسوء التصرّف. إذ إنّ تجاوز مبدأ المحاسبة قبل المصالحة يعتبر تشجيعاً للفاسدين للمضيّ قدماً في تجاوزاتهم".
وقد تجلّى سعي السلطة لتغطية الفساد في مشروع قانون المصالحة الاقتصاديّة والماليّة الذي اقترحه رئيس الجمهوريّة في يوليو/ تموز الماضي، إلاّ أنّه تمّ تعليقه نظراً للرفض الشعبيّ لمثل هذه المبادرة، إضافة إلى الفصل 61 من قانون المالية لعام 2016 والذي ألغته المحكمة الدستوريّة بسبب طعن نواب المعارضة.
أمّا عن ارتدادات هذه السياسة القائمة على تشجع الفساد وغياب المحاسبة، فيقول البدوي: "إنّ المستفيد الحقيقيّ من هذا الواقع، هم عدد من رجال الأعمال الفاسدين الذين استطاعوا فرض سطوتهم وتأمين غطاء سياسيّ لهم، وهو ما يعني تسخير الحكومة لخدمة فئة بعينها دون أغلبيّة الشعب. وهذا الواقع هو المصدر الحقيقيّ لحالة الاحتقان وتصاعد النقمة الشعبيّة ضدّ سياسات الحكومة الاقتصاديّة التي لا تأخذ بالاعتبار الأولويات الحقيقيّة للمواطنين، على غرار التشغيل والتنمية الجهوية، وضرورة ردّ الاعتبار لضحايا الفساد، وكبح جماح التجاوزات المالية والاقتصادية".

غياب العدالة 

من جهة أخرى، يتطرّق البدوي إلى "مسألة غياب العدالة في التعاطي مع الشأن الاقتصاديّ، فسياسات الحكومة الحاليّة تترجم انحيازاً واضحاً لصف رجال الأعمال، خاصة الفاسدين، عبر التلكؤ في الإصلاحات الجبائيّة المعطّلة منذ العام 2012، وعرقلة جهود هيئة مكافحة الفساد، والمجاهرة بالتحالف مع طبقة رجال الأعمال وأصحاب الثروات. وهذه الممارسات تزيد في اقتناع الناس أنّ الدولة مسخّرة لخدمة مصالح معينة".
عقب طرح رئاسة الجمهورية في يوليو/ تموز 2015 مشروع المصالحة الاقتصاديّة والماليّة، تأسّست حملة "مانيش مسامح"، لتعلن رفضها للمبادرة وتشكّل تحالفاً واسعاً ضمّ عدداً من مكوّنات المجتمع المدني وعدداً كبيراً من الشباب المستقلّين. هذه الحملة استطاعت إجبار الرئيس على تعليق مشروعه، ورفعت شعار المحاسبة كمطلب رئيسيّ، وفق ما يؤكد الطيّب هنشير، عضو الحملة في تونس، معتبراً أنّ القفز على مبدأ المحاسبة يعدّ ضرباً لأكبر استحقاقات الثورة، ونصراً للفاسدين الذين كرّسوا الفقر والبطالة واستنزفوا الاقتصاد، ودفعوا الشعب في نهاية المطاف إلى الثورة على النظام الذي كان يحميهم.
ويقول هنشير: "أثبتت التجربة أنّ هؤلاء استطاعوا الالتفاف على الثورة والعودة مجدّداً إلى الساحة السياسيّة، محاولين تغطية فسادهم والهروب من المحاسبة عبر طرح مبادرات ومشاريع قوانين تعفيهم من المسؤوليّة".
ويؤكّد أنّ حالة الالتفاف الشعبي حول حملة "مانيش مسامح"، أثبتت أنّ مطلب المحاسبة وإخضاع الفاسدين للقانون لطالما كانت مطلباً شعبياً لم يجد الناس متنفّساً واضحاً للتعبير عنه. وبحسب هنشير، فإن موجة الاحتجاجات التي انطلقت أواخر شهر يناير/ كانون الثاني الماضي في "القصرين"، تعود بالأساس إلى التلاعب بقوائم المنتدبين وعودة رموز الفساد، وهو ما دفع الأهالي للاحتجاج والتصعيد، ليس في محافظة القصرين فحسب، بل في معظم محافظات البلاد، لإحساسهم بخطر هذه التجاوزات وتهديدها لأبسط حقوقهم في العدالة والمساواة أمام القانون.
ويختم قائلاً: "إن القانون التونسيّ يُطبّق بصرامة على عموم الشعب في حالات الجنح أو المخالفات الصغيرة، في حين ينعم أكثر من 120 رجل أعمال بالطمأنينة وراحة البال، رغم ثبوت تورّطهم في قضايا تهرّب جبائيّ وفساد ماليّ كلّف الدولة مليارات الدولارات".

اقرأ أيضاً:مؤشر تعاسة التونسيين: البطالة واجهة فقط
المساهمون