ضحايا من شرائح متنوعة
حصلت معدة التحقيق عبر الضحايا على 12 تسجيلا لرسائل صوتية أرسلها مالك شركة للتشطبيات والديكور الذي تتحفظ الجريدة على اسمه، موجهة إلى بعض المودعين الذين خلفهم وراءه، وتحمل التسجيلات تبريرات لاختفائه ووعودا للبعض وتهديدات لآخرين بسبب نشرهم لمعلومات حول القضية.
ويتضح من التسجيلات وإفادات خاصة أن الأرباح الموعودة تتراوح بين 25% وتصل حتى 50%، كما تضم شريحة من تعرضوا لنهب مدخراتهم عبر وعود الربح الهائل، أصحاب محال تجارية صغيرة وتجارا وصرافين ولاجئين ونازحين ومتضررين من الحرب وأرامل ونساء معيلات وكبار سن، ومن بينهم الستيني أبو أحمد، الذي أودع منتصف العام الماضي مبلغ 2500 دولار، هي كل ما يملكه لدى مشغل أموال آخر من مدينة حلفايا شمالي حماة يعمل في تجارة المواد الغذائية بالجملة، في محاولة للحصول على ريع ثابت لإعالة أسرته المكونة من 7 أشخاص، لكنها ضاعت كلها كما يقول بأسى، وهو ما تكرر مع نعمان العلي في منطقة سلقين بمحافظة إدلب، والذي خسر 100 ألف دولار كان قد أودعها نهاية عام 2017 لدى ذات الرجل الذي استطاع من خلال الاحتكاك بالناس ونشر وعود مغرية أن يجمع قرابة المليون دولار، وخاصة من أصحاب رؤوس الأموال والعاملين في الصرافة والذهب، ومن اغتنوا بفعل تجارة الحرب حسب تأكيد قريب نعمان وابن المنطقة الصحافي محمد العلي، والذي قال لـ"العربي الجديد" إن "المتهم اختفى دون أثر عقب هروبه باتجاه مناطق النظام".
ملايين الدولارات والجنيهات
رصدت معدة التحقيق خمس قضايا توظيف أموال لمشغلين سوريين، ثلاث منها في محافظة إدلب، واثنتان في مصر، خلال الفترة الممتدة من عام 2015 حتى يونيو/حزيران من عام 2019، وبلغ حجم الأموال التي أودعها 162 ضحية لدى خمسة من مشغلي الأموال، 7 ملايين و100 ألف دولار، منها 80 مليون جنيه مصري أي ما يعادل (4 ملايين و800 ألف دولار وفق سعر الصرف وقتها) جمعها مالك شركة المقاولات والديكور من ضحاياه بحسب تقدير محامي الضحايا حامد.
ومن بين تلك المبالغ مليون دولار جمعها مشغل أموال سوري من اللاذقية كان مقيما في مدينة الإسكندرية المصرية، في حادثة تابع تفاصيلها مسؤول حقوق الإنسان باللجنة القانونية في الائتلاف السوري بالقاهرة، المحامي فراس الحاج يحيى كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا أن المشغل غرر بالمودعين، قبل أن يسرق أموالهم ويغادر نحو سورية، مخلفا زوجته وابنتيه في مواجهة ضحاياه.
وجمع ثلاثة مشغلين 2.2 مليون دولار من مودعين في إدلب بحسب مدير المكتب القانوني في رابطة المحامين السوريين الأحرار، المحامي حسن مصطفى المصطفى والذي يتابع 5 قضايا توظيف الأموال في محاكم إدلب كما قال لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى أن إحدى القضايا يبلغ إجمالي الأموال المنهوبة المطالب بها نحو مليون دولار، وفي قضية أخرى 200 ألف دولار جمعها مشغل أموال في كفر سجنة كان يدعي العمل بتجارة السيارات، ومليون دولار جمعها مشغل أموال يعمل في تجارة الأدوات الكهربائية في بلدات كفر تخاريم وسلقين وأرمناز بمحافظة إدلب خلال عام 2015، وهو ما يؤكده العشريني وسام الوليد، جار أحد المتورطين والذي يعيش في سلقين كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا أن المتهم جمع أموالا من 100 مودع من البلدات الثلاث، بمبالغ أقلها ألف دولار وأكثرها 150 ألف دولار. ويتوقع المصطفى أن مجموع المبالغ المنهوبة في قضيتي توظيف أموال جديدتين ما زال يترافع فيهما في محكمة كفر نبل ومحكمة إدلب التابعة لحكومة الإنقاذ، يصل إلى 900 ألف دولار.
ظاهرة قديمة
في 23 يوليو/تموز عام 1961 صدر القانون رقم (118) بالـتأميم الجزئي في عهد الوحدة المصرية السورية، وتلته لاحقا عمليات التأميم الكلي في عهد حافظ الأسد، وهو أدى إلى تداعيات على بنية الاقتصاد السوري، منها ابتعاد معظم التجار الكبار مع رؤوس أموالهم إلى خارج سورية وتقلص السيولة النقدية خلال السنوات العشر الأولى من استلام البعث للسلطة، وبسبب المساعدات العربية التي أغدقت على الدولة السورية عقب انتهاء حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 بعد تدمير إسرائيل لمصفاة حمص وعدة منشآت حيوية أخرى، عادت السيولة النقدية للتراكم في يد الطبقة الوسطى في ثمانينيات القرن المنصرم، وووقتها عاش السوريون في ظل عدم وجود السلع المختلفة جراء الحصار الذي ضرب على الاقتصاد السوري آنذاك، نتيجة تورط نظام الأسد الأب في عدد من العمليات الإرهابية في أوروبا، لتنشط عمليات التوظيف من قبل جامعي الأموال دون وجود قانون يضبطها، وبرزت أسماء اقتصادية كبيرة في عالم التوظيف منها بسام خربوطلي صاحب شركة "راني" الذي سجن في عام 1985 دون أن يكون في وضع الإفلاس لتضيع بلايين الليرات السورية على يده وهو وغيره، وفق ما أوضحه لـ"العربي الجديد" المحلل الاقتصادي مصطفى السيد، أمين تحرير مجلـة الاقتصادي السورية السابق.
شركات ناشطة تعمل في مصر
تنشط بعض شركات توظيف الأموال داخل تجمعات السوريين في المدن المصرية بحسب المحامي يحيى، والذي رصد خمس شركات سورية تعمل في هذا المجال، مشيرا إلى وجود شركات ومشاريع توظيف أموال مرخصة باسم مالكها فقط وليس باعتبارها شركات مساهمة، وتابع مستدركا "ليس بالضرورة أن تصل تلك الشركات لذات النهاية كما في الحالات السابقة، ولكن يبقى هامش المخاطرة فيها كبيرا كونها تعمل بأموال مودعين لا يحصلون عادة على أية ضمانات باستثناء الضمان الشفهي"، وهو ما حدث مع الحمصي الذي لم يطالب رجل الأعمال الذي منحه ماله، بسند استلام، نتيجة لثقته به، كونه صديقه وجاره كما يقول.
ويستهدف العاملون في تشغيل الأموال في دول اللجوء البسطاء والأكثر جهلا بالقوانين والأكثر عوزا، ويستجيب هؤلاء لإغراءات الكسب السهل الذي يعرضه مشغلو الأموال المتمتعون بكاريزما تقوم على ادعاء التدين والثراء والزهد في ما في يد الآخرين، ووعود بالأرباح العالية التي حصدها بعض مودعيهم في الفترة الأولى فيما يضطر البعض الآخر إلى اللجوء لهذه الطريقة بسبب عدم إمكانية استثمار مبالغهم البسيطة، فضلا عن المعيقات الكبيرة والكثيرة التي تضعها البنوك أمامهم، بحسب المحامي يحيى.
الهروب إلى مناطق النظام
أدت ظروف غياب الأمن واختلاف مناطق السيطرة الأمنية، إلى عدم إمكانية ملاحقة المتورطين في النصب على المودعين، كما حدث في حالة مشغل الأموال في كفر سجنة، والذي فر عند افتضاح أمره إلى مدينة حماة الواقعة تحت سيطرة النظام في أكتوبر/تشرين الأول 2018، تاركا خلفه 22 ضحية حسب ما نقله الثلاثيني محمد شحادة المتطوع السابق في المجلس المحلي بكفر سجنة (45 كم إلى الجنوب من إدلب) ومن بين الضحايا الأرملة السورية أم محمد التي باعت كل ما تملك وحتى قطعة الذهب الوحيدة في يدها و70 مترا ورثتها عن أبيها، بمبلغ 1300 دولار، أودعته لدى الرجل نهاية العام 2017، لكي تضمن مدخولا ثابتا يمكنها من إعالة أسرتها المكونة من ثلاث بنات كما تقول.
ويتطابق ما حدث في كفر سجنة مع الحالة التي رصدها المحامي المصطفى، والذي قال "سجن المتهم بعد أن عرضت قضيته أمام محكمتي كفر نبل وإدلب. لكنه تمكن من الهرب في 13 مارس/آذار 2019 أثناء تعرض سجن إدلب المركزي لقصف بالطيران الروسي، وضاعت حقوق الناس"، بينما اختار مشغل الأموال في بلدات كفر تخاريم وسلقين وأرمناز، الهرب نهاية العام 2017 باتجاه تركيا، ومنها إلى ألمانيا بحسب تأكيد وسام الوليد، الذي اطلع على جميع مراحل القضية، التي وصلت إلى القضاء وحكم بمصادرة كامل البضائع المخزنة في المحال والمستودعات التابعة له. لكنها لم تغط سوى جزء يسير من خسائر المودعين الذين لا يزالون يتابعون الأمر قضائيا، في مصير يشبه ما جرى من قبل منذ انتشار الظاهرة بداية الثمانينيات، إذ خسر المودعون أموالهم دون تعويضات في الغالب، بحسب المحلل الاقتصادي السيد، والذي يحذر من أن البيئة الاقتصادية والأمنية في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة مواتية لشيوع عمليات توظيف الأموال، بسبب غياب المرجعيات القضائية والقانونية، واستبدالها بمحاكم ذات مرجعيات قانونية مضطربة، في ظل أن قضايا توظيف الأموال تواجه إشكالية في التوصيف القانوني لها، ما بين حوادث نصب واحتيال، أو ديون يتم الاكتفاء بالمطالبة بها، وهو ما يؤكده المحامي المصطفى من واقع عمله في محاكم إدلب، مشيرا إلى أن تغير مرجعيات المحاكم وقوانينها حسب الجهة المسيطرة، يساهم في خلق فوضى إضافية كما يقول.