تنتج جمهورية مصر العربية كل عام نحو 85% من إجمالي الكتب التي تصدر في الوطن العربي، ووفقًا لدراسة حديثة أعدها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، فإن 48% من الشباب المصري بين سن الـ15 والـ30 تحتل القراءة المرتبة الثالثة على قائمة هواياتهم، وأن 61% من هؤلاء يعتمدون بشكل رئيسي على استعارة الكتب من الأصدقاء والمكتبات العامة، بينما يخصص 27% منهم نحو 5 دولارات في المتوسط لشراء الكتب كل شهر.
وتعيش مصر منذ سنوات طفرة ملحوظة في أعداد الكتب المنشورة، وبالتحديد من بعد الانتخابات الرئاسية عام 2005، حين ارتفع سقف حرية التعبير – نسبيًا – في محاولة من نظام الرئيس المخلوع مبارك لتجميل صورته، بعد أن ازدادت الانتقادات الموجهة إليه من الخارج، وتصاعدت الاحتجاجات والإضرابات العمّالية في الداخل. وقد أثارت هذه الطفرة - ولا تزال - جدلًا واسعًا في الأوساط الثقافية والأدبية لما صاحبها من ثورة على "المضمون"، قادها جيل جديد من الكتَّاب الشباب له أسلوبه وأفكاره ولغته المختلفة. وبين مؤيد يرى أن ما يحدث هو تطور طبيعي يُعبّر عن المجتمع، وبين معارض يرى في انتشار الكتب الشبابية إهدارًا لقيمة الثقافة والأدب وهبوطًا بذوق الجمهور، تستمر ماكينات الطباعة المصرية في العمل دون توقف.
قبل الثورة وبعدها
تنقسم السنوات العشر الأخيرة من عُمر الكتابة في مصر إلى فترتين رئيسيتين، تفصلهما ثورة الخامس والعشرين من يناير، وفي كلتا الفترتين كان التأثير بين الكتابة والسياسة مُتبادَلًا، وعنيفًا:
الأولى شهدت انسدادًا سياسيًا كبيرًا، بعد تزوير الانتخابات، وسيطرة رجال جمال مبارك - نجل الرئيس المخلوع - على الحزب الحاكم وكافة مفاصل الدولة. في تلك الفترة التي كان يغلي فيها الشارع المصري وجد العديد من الكُتَّاب ضالتهم في الأدب الساخر، فكتبوا يسخرون من الدولة والبيروقراطية والمجتمع، وبزغ نجم مجموعة من الأقلام الشبابية يتصدرها عمر طاهر وبلال فضل وأحمد العسيلي وهيثم دبور، مجموعة أقرب في لغتها وأفكارها إلى الجمهور الذي تلقفها بترحاب.
كانوا غاضبين، وكانت السخرية اللاذعة هي سلاحهم ووسيلتهم للتعبير عن هذا الغضب. يمكننا تلخيص تلك الفترة في مقولة للروائي التركي أورهان باموق؛ الحائز على جائزة نوبل في الآداب: "أكتبُ لأنني غاضبٌ منكم جميعًا، أكتب لأنني لا أستطيع تحمُّل الحقيقة إلا وأنا أُغيّرها".
أما الفترة الثانية – فترة الثورة وما تلاها – فقد شهدت تجدد الأمل لدى عموم المصريين، وارتفاع سقف الحريات إلى حد غير مسبوق في تاريخ مصر منذ قيام الجمهورية. اختفى حاجز الخوف، وعادت أحلام الحرية والعدالة الاجتماعية تطرق أبواب المصريين من جديد، فانحسرت موجة الكتابة الساخرة، واتجه الكُتَّاب بقوة إلى ألوان أخرى من الأدب تمس الوجدان بشكل أكبر. لم يكن يمر يوم واحد دون أن تسمع عن إصدار رواية شبابية جديدة أو ديوان شعر بالعامية.. كان الأمر جنونيًا.
قضيت يومين أثناء تجهيزي لكتابة هذا المقال بين دار الكتب والوثائق القومية في وسط القاهرة، والجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في شرقها، محاولًا الحصول على بعض الإحصائيات عن أعداد الكتب التي تصدر في مصر سنويًا وأقسامها؛ كي أقف على حقيقة الصعود الصاروخي للكتابة الأدبية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، وقد كانت الأرقام – التي لم يفدني أي من موظفي الجهتين في الحصول عليها – خير دليل.
في 2009 لم تكن تُشكل الكتب الأدبية أكثر من 18% من إجمالي عدد الكتب المنشورة في مصر خلال السنة، ثم قفزت النسبة إلى الضعف تقريبًا بعد الثورة عام 2011 لتصل إلى 30%، وفي 2012 وصل عدد الكتب الأدبية المنشورة في مصر إلى 573 كتابًا شكلوا نحو 35% من الإجمالي، بواقع كتاب ونصف كل يوم!
بين الفوضى والإبداع
لا يمكن أن نحيل سبب انتشار الكتابة الأدبية في مصر إلى ثورة الخامس والعشرين من يناير، ونغفل الدور الكبير الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي، لقد خلق "فيسبوك" ورفاقه مجتمعًا نصّيًا يتم التواصل فيه يوميًا بشكل أساسي (وليس حصري) من خلال الكلمات قراءةً وكتابة، وقد ساهم ذلك في خلق شريحة جديدة من القرَّاء الذين وجدوا في الوجبات النصيَّة السريعة ضالتهم، وشريحة جديدة من الكُتَّاب الذين ساعدتهم وسائل التواصل الاجتماعي تدريجيًا على تخطي رهبة الكتابة.
تريد أن تنشر كتابًا الآن؟ لا بأس، إذا كنت تملك حبرًا على ورق، وقليلًا من المال، وعددًا من المتابعين على "فيسبوك" أو "تويتر" فلن تجد أي مشكلة في ذلك، لا يهم إن كان ما تكتبه شعرًا أم نثرًا ولا يهم عدد الجرائم التي سترتكبها في حق اللغة، ستجد من ينشر لك. هناك من جمع تغريداته على "تويتر" ونشرها في كتاب، وهناك من جمعت رسائل التحرش التي تصلها على "فيسبوك" وقامت بنشرها كذلك. بالتأكيد تملك فرصة.
لا أترحم على أيام "المحاسيب" من المثقفين، ولا على الانتظار لشهور وسنوات أمام مكاتب وزارة الثقافة والهيئات الحكومية كي تنشر كتابًا (هذا إن قبلوا نشره)، وأدافع بشدة عن حرية الإبداع، تمامًا كما أدافع عن حرية النقد، لكن كما قال غابرييل غارثيا ماركيز: "لا بد من إبداء الرأي بصراحة مطلقة، فعندما نرى شيئاً غير جيد يجب أن نقول ذلك، يجب أن نتعلم قول الحقيقة لبعضنا البعض وجهًا لوجه، وأن نعمل كما لو أننا نقوم بإجراء علاج جماعي".
كذلك لا أغفل مسؤولية عدد كبير من دور النشر والمكتبات في الأزمة التي يعيشها الوسط الأدبي بمصر حاليًا، ففي ظل غياب شبه تام للرقابة الذاتية على ما يُنشر، واللهاث وراء كل ما خفَّ وزنه وسَهُل بيعه، يصبح القارئ أسيرًا "للأكثر مبيعًا" وتفسد ذائقته.
حين سُئل الكاتب والفيلسوف الفرنسي "فولتير" عمن سيقود الجنس البشري، أجاب: "الذين يعرفون كيف يقرؤون". وبالطبع لا يقصد "فولتير" من يجيدون الشِق الآلي للقراءة بربط الحروف والكلمات لاستخلاص المعنى، بل يعني هؤلاء الذين تطورت لديهم المهارة الكافية لمعرفة ما عليهم قراءته، وكيف ينقدونه، وما عليهم فهمه وتضمينه، وما عليهم نسيانه.