في ثمانين صفحة من الكلمات الحارة المتلاحقة التي لا تتوقف إلا كي يأخذ القارئ نفساً قصيراً، هي تلك التي تسبق فصول الرواية، يضعنا يوسف إدريس في عمله البديع "العسكري الأسود" أمام تلك التحولات القاتلة التي ينحدر إليها البشر حين يُوضعون في أمكنة تحط من قيمهم الإنسانية، وتجبرهم، أو تتيح لهم، القيام بأدوار التسلّط والقهر والتعذيب ضد بشر آخرين.
ذات يوم، قال لي أحد أصدقائي إن في الرواية نفساً قدرياً يؤكد أن مصير الظالمين والقتلة هو إلى الجنون - أو أنهم سوف "يهبهبون مثل الكلاب أو يعوون مثل الذئاب"، كما تصف الرواية العسكريَ الأسود في تقاعده - حين يكون ضميرهم أو وجدانهم الإنساني قد استيقظ وجعلهم يندمون على ما ارتكبت أيديهم بحق غيرهم من البشر من صنوف التعذيب.
وعلى الرغم من تلك النهاية المرعبة التي انتهى إليها العسكري الأسود (وهو ضابط صف اشتهر في السجون المصرية بوحشيته)، فإن النموذج نفسه لا يزال يتكرّر في حياتنا العربية، بما ينفي روح القدر التي ستحكم عليهم بالتحول إلى وحوش. وربما كان نوعاً من الاستعداد الأخلاقي والنفسي لدى شرائح وأفراد من المواطنين المدنيين والعسكريين للقيام بدور الجلّاد. وثمة الكثير من الحكايات التي قدّمها السجناء الذين تعرضوا للضرب أو للتعذيب عن أولئك الذين يشبهوننا في كل شيء، ويتحولون إلى جلادين عديمي الرحمة بحق سجناء لا يعرفون عنهم شيئاً.
والرواية هي، إلى جانب هذا، سجل مكثف للنشاطات السياسية التي عمّت جيلاً من الشباب انضوى كل منهم في تنظيم. والمشكلة هي أنه بقدر ما تكرّر نموذج العسكري الأسود، تكرّر نموذج المناضلين المنقسمين الذين لم يعرفوا العمل المشترك من أجل الحرية. وبحسب الرواية، فإن كل تنظيم كان يبني وجوده على الشتائم مع التنظيمات الأخرى. على الرغم من أن الجميع كانوا ينشطون "لإنقاذ بلادنا وتغيير مصير شعبنا تغييراً جذرياً للأبد"، كما قال الراوي.
بل إن الرواية يمكن أن تلخّص إلى حد بعيد حال العجز والتردد والتفسخ الذي يسم خطوات الباحثين عن الحرية. كأنما يدور الناس، في هذه البلاد، في حلقة مفرغة منذ فجر الاستقلال حتى يومنا هذا، لا أحد يتعلّم من التاريخ، ولا أحد يتعلّم من القصة والرواية. وربما يمكن القول إن لا أحد يقرأ التاريخ كي يتعلّم من تجاربه، ولا أحد يقرأ القصة العربية أيضاً، كي يعرف أن ما يفعله اليوم سبق أن دمّر حلم المستقبل لدى الجيل الذي يمكن أن يكون أبوه أو جده أحد صناعه.
المهم أن الندوب النفسية تدمّر كلا الجهتين، بحسب ما تقول القصة. فبقدر ما يخسر شوقي شخصيته، بسبب السجن والتعذيب، وينقلب انقلاباً خطيراً في الفكر والسلوك، لا يظل العسكري إنساناً بل مجرّد وحش مكسور يعوي. ولكن إذا كان شوقي يمثّل الشعب المكسور المعذّب، فإن مصير العسكري الأسود لا يمثّل النظام العربي الذي ظل يفتك بالمواطنين دون أن يعذبه ضمير أو يشغل باله إذا ما أصابت ضميره مئات الندوب.