استمع إلى الملخص
- المتحدث باسم جيش الاحتلال يدعو السكان لمغادرة منازلهم، في إطار خطة "تغيير الشرق الأوسط"، مما يعمق من معاناة الناس ويمنعهم من العودة إلى أراضيهم.
- العلاقة العاطفية بين الإنسان وبيته تتجلى في المنطقة، حيث يظل المستعمرون يهددون بوحشية، بينما يبقى الحنين للبيت قوياً رغم التهجير.
لم ينزح أهل الجنوب اللبناني والبقاع والضاحية الجنوبيّة لبيروت وحدهم. نزحت بيوتهم في إثرهم. كنت أنظِّف الاستديو الذي أستأجره في "منطقة آمنة" من بيروت للمرّة الأخيرة، قبل تسليمه للمالك ونزوحي العكسيِّ نحو بيتي في قريتي السوريّة، عندما انتبهتُ إلى ما يُشبه السخام فوق بلاط الشرفة الفاتح، يتحوَّل إلى مادة كـ"الترابة" (الإسمنت) فوق "باركيه" الغرفة والمطبخ ذي اللون البنّيّ.
ليس لهذه الآثار سابق. تعجَّبتُ من ماهية هذه المادة. لمستُها بأصابعي ودسستُها فامَّحت تقريباً، قبل أن أتوصَّل إلى ربطها بالوضع المستجدّ. تتحوَّل البيوت المنسوفة إلى ترابٍ لا شظايا فيه، على ما يقول من يزورون المناطق التي جرى استهدافها، في إحدى الاختلافات الرئيسة عن حرب عام 2006، التي يقلُّ دمارها كثيراً عن دمار حرب اليوم المستمرَّة. يبدو أنّ السبب هو نوعيّة القنابل الجديدة مزدوجة الانفجار، العاملة بالضغط، التي قرأنا عنها في الصحف.
يقف المتحدث باسم جيش الاحتلال أمام الكاميرا إذاً، ذلك السمج كبير الرأس (منذ أيَّام تداعب مخيِّلتي صورة رصاصة قنَّاصٍ تخترق جمجمته الغليظة)، اللسان الناطق بما يعتمل في دماغ الإجرام الصهيوني بلغتنا العربيَّة، ويقول للناس غادروا بيوتكم ـ كما فعل قبل ذلك في غزّة، وما زال يفعل بعد أكثر من سنة ـ في تمهيدٍ لقصفها وسلخهم عن أرضهم ومنعهم من العودة إليها، ضمن خطة "تغيير الشرق الأوسط" التي يريدون هندسة حياتنا وفقها. يصل الناس إلى منازحهم، فتلحق بهم بيوتهم في نوعٍ خاصٍّ من الوفاء الآتي من طول العِشرة. تحيط بهم على هيئة غُبارٍ ليسكنوها من جديد، بعد أن يعلو في الفضاء لتحمله رياح تشرين الجنوبية والجنوبية الشرقية.
وحش يهزّ قضبان قفصه مهدّداً بتحطيمه واكتساح مساكن الآخرين
هناك علاقة عاطفيَّة قويَّة بين البيت وساكنه في أيِّ مكانٍ من العالم، قد تكون أقوى في منطقتنا التي حبس فيها المستعمرون وحشاً يظلُّ يهزُّ قضبان قفصه، مهدِّداً بتحطيمه واكتساح مساكن الآخرين والاعتداء على أملاكهم.
أستأجرُ الاستديو منذ سنتين وعشرة أشهرٍ فقط، ومع ذلك أحسستُ وأنا أنظِّفه بما سأحسُّ به من شوقٍ لاحقٍ إليه (حتى إنِّي سمَّيته "بيتي" في العنوان)، وسألتُ نفسي كيف هي الحال إذاً مع من هُجِّروا من بيوت حياتهم، وأولئك الذين فقدوها؟ فخجلتُ من إحساسي. ثم طمأنتُ نفسي، وأنا أنظر إلى اللون القاتم الذي تحوَّلت إليه مياه الشطف، إلى مآل الأمور وإن طال الزمن؛ إذ كيف تغادر بيتاً يرفض أن يغادرك؟ كيف لا تعود إلى بيتٍ تلحق بك آثاره أينما ذهبت؟ لكن، كيف يمكن أن يفهم ذلك من لا بيتَ لهم في هذه الأرض، من استولوا على بيوت الفلسطينيين في حيفا ويافا وعكّا، وبقية الأرض المحتلَّة من البحر إلى النهر؟
* كاتب سوري مقيم في بيروت