تواريخ شعوب

22 أكتوبر 2017
(مظاهرات ما بعد الاستفتاء في كتالونيا، تصوير: بوراك أكبولوت)
+ الخط -

أن أقرأ للرئيس الفرنسي من باريس وهو يقول إن "الأنانية الاقتصادية لدى الكتلان تخيفني". أن أسمع ماريو بارغاس يوسّا في أحد شوارع برشلونة يصف "نزعتهم الانفصالية بالمرض". فلن يطفئ هذا ولا ذاك، من حقيقة أن الجمرة اتّقدت، بعد رماد وسُبات طويلَين. ولن تستطيع أية قوة أن تطفئها نهائياً، مع بداهة أنها تستطيع إخمادها إلى حين.

مساء ذلك الثلاثاء، كنت مع الكتلان تحت قوس نصرهم، ننتظر إعلان الاستقلال من برلمانهم الذي يبعد خطوات عن المكان. وحين علّق رئيسهم الخبر المنتظرَ والمحلوم به طويلاً، انفجرت الدموع من عيون كثيرة. كهول وشبان وما بينهما.
كانت خيبة لا مثيل لها: لحظة عاطفية، لا تنفع معها تبريرات العقل والإحالة إلى موازين القوى.

فالكل، من أيّد ومن عارض، يعرف أنها معركة كسر عظم. وأن كتالونيا لن تربحها في المدى القريب، على الأقل.

ما لا يعرفه كُثر أن فرنسا تحتل ربع أراضي كتالونيا. وأن برغاس يوسّا (قال أيضاً عن دعاة الاستقلال، إنهم يأخذون كتالونيا إلى العالم الثالث) هو رجل مدريد المتوّج. على الرغم من أفضال كتالونيا عليه، إذ سكنها سنوات وطبع رواياته فيها.

نفهم ميكافلليّة السياسي، ونفهم أيضاً أن المبادئ ما عادت منذ أحقاب تؤرّق منام يوسّا، لا هنا في كتالونيا، ولا هناك في فلسطين، ولا في قارّته الجريحة نفسها. أما ماكرون فليس غيفارا، كيما يتكلّم عن أنانيّات.

■ ■ ■

الرقمُ مجرّدٌ من الدلالة. هكذا شاءت الأزمنةُ الحديثة. مع الرقم لن يكون هناك دالٌّ ولا مدلول. وبانتفاء الدلالة ينتفي المعنى أوتوماتيكياً على نحوٍ كُلّيّ. وفي أحسن الأحوال، قد تتبقى منه شظايا متذررة.

شظايا يستحيل أن تقوم مقامَ الجبل العائم.

أكتب هذا وعيني على تواريخ شعوب ممرورة عاشت قرناً من الزمن، هو قرننا الأخير الأعلى والأفدح في عدد ضحاياه. بداية من حروب أوروبا، مروراً بِ وبِ، ووصولاً إلى بلادنا في هذه الحقبة.

ففي إسبانيا، مثالاً، تمخّضت الحرب الأهلية عن مليون ضحية. مضوا عارين من الدلالة، وعلى الأرجح لن يظفروا بقبس منها حتى في المستقبل.

فما الذي يمنع أن يؤول الضحايا السوريون (والفلسطينيون، من قبلهم ومن بعدهم)، مآلَ الضحايا الإسبان، ما دامت القوى الكبرى تسير على نفس المنهج؟

كشاعر، أكره الأرقام منذ يفاعتي. ففي عرائها الجحيمي تُغتال الروح، فتغيب القصصُ والحكايات. يغيب نُسغ الحياة، وتتحول هذه إلى بلادة وصلادة الحجر.

الرقم هو التجريد الأقصى. إنه الخيانة العظمى لكل ما هو نبيل وإنساني، كذلك.

ومع أن الرقم اختُرعَ قبل الرأسمالية بدهور، فما من نظام استخدمه: استغلّه واستفاد منه، كما فعلت هذه.

ما لم يبرح الرقم تأويلَه القارّ، فسيبقى قوسُ الضحايا مفتوحاً، حالُه كحال الجحيم الإبراهيمي: هل من مزيد؟

مؤلم ومُغضِبٌ أن تبلو أزماناً يحضر الرقم فيها وتغيب الحكاية.


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة

المساهمون