الترجمة أو المنفى السعيد

28 يوليو 2018
أتسوكو تاناكا/ اليابان
+ الخط -

يحفل تاريخ الأدب بأخبار ومعلومات عن كثير من الأدباء من مختلف الأصقاع، الذين كابدوا المنفى، وانصرفوا أثناء تلك التجربة الصعبة إلى اجتراح الترجمة، إلى جانب تأليفهم أعمالهم الإبداعية.

اقتران المنفى بالترجمة مسألة موغلة في القدم؛ فالمعروف أن غضبَ الرب على سكّان بابل قديماً تسبّب في شتاتٍ لم يعرف تاريخ البشرية له مثيلاً، نظراً لقسوته الرمزية المتمثِّلة في عدم اكتفائه بأن بدّد البشر ضمن ما عُرف بـ "الشتات البابلي"، بل تعدّاه إلى بلبلة ألسنتهم.

وقد ورد في "الإصحاح (11) من "سِفر التكوين" أن الرب قال في حقّ المتطاولين على ملكوته: "هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هناكَ لِسانَهم حتَّى لا يَسْمَعَ بَعْضُهُم لسانَ بعْضٍ"، ليهيم البشر على وجه البسيطة حالمين بالعود الأبدي، وحاملين جرحاً إضافياً هو الجرح اللساني.

هكذا، كان ابتداء تجربة المنفى؛ بما هي اجتثاث من الأرض واغتراب فيها وعنها، في اللغة أساساً، وفي العادات والثقافة وغيرهما.

لا شك في أن النفي تسبّب للبشر في تشتّتهم في الأرض وفي بلبلة لسانهم. لكن، يبدو أنهم لم يستسلموا تماماً لقدرهم هذا، فقد لزِمتهم لوثة الصلف منذ تجرّئهم على الرَّبّ، على الرَّغم من محنتهم. يتأكَّدُ ذلك من كدِّهم من أجل استعادة اللغة الأولى، لغة ما قبل فاجعة بابل، وتوسَّلوا إليها باستراتيجية جديدة هي الترجمة.

بوساطة الترجمة، سعوا إلى نيل السعادة بجعلهم فضاء النصوص مجالاً - وفق رولان بارت - تبلغ به الذات "المتعةَ عبر تعايش اللغات، التي تشتغل جنباً إلى جنب: نصّ اللذة هو بابل السعيدة"، مجسَّدةً في الارتحال بالنص، وإعادة كتابته، والارتقاء به إن أمكن، لأن الترجمات تُحسّن الأصول في كثير من الحالات، وفي الوقت ذاته، تمنحها حياةً أخرى في إهاب لغة وثقافة أُخريَين.

ولا غرو أنّ النص يدخل تجربة المنفى برحيله في مغامرةٍ ترمي به إلى المجهول، ليجد ذاته في قبضة مترجِم قد يفعل به ما يشاء، حسب معرفته وتمكّنه من اللغتين والثقافتين. ومع ذلك، فالنص لا يُخفي رغبتَه في خوضه هذه التجربة خلافاً للمؤلِّف، الذي يعيش التجربة متألّماً.

يتمسّك النص المترجَم بإقامته الجديدة في اللسان الجديد، ويرفض الرحيل عنها، بل يطمح إلى أن يحظى بأكثر من ترجمة في اللغة الواحدة، حتى لكأنه المقصود بقول المتنبّي: "خُلِقتُ أَلوفاً لَو رَحَلتُ إِلى الصِبا/ لَفارَقتُ شَيبي موجَعَ القَلبِ باكِيا".

قد يعيش المترجِم محنة المنفى، كحال رفاعة الطهطاوي الذي نفاه الخديوي عباس الأوّل إلى الخرطوم في السودان، فاهتبل جحيم المنفى بإفراغه جهده في ترجمة "Les Aventures de Télémaque" لمؤلِّفه فينيلون إلى العربية تحت عنوان "مواقع الأفلاك في وقائع تِليماك"، بغاية تقديم النصيحة للحاكم، وفي الوقت ذاته، توعية الناس للارتقاء بسلوكهم، بأن قدّم لهم نماذج لما هو عليه المجتمع الغربي من تنظيم إداري وسياسي واجتماعي.

لكن ما يهمنا هنا هو السعادة التي عاشها النص الأصلي وهو ينتقل ويحيا سعادة الارتحال، ويرى في عيون قرّائه اكتشافهم الجدّة فيه، بينما يعيش مترجِمه نكبة النفي.

ولربما كانت إسبانيا ما بعد الحرب الأهلية (1936 – 1939) البلد الذي عاش مثقّفوه ومُبدعوه ومترجموه أكبر تدفُّقات لمنفيين إلى الخارج، خصوصاً إلى فرنسا والمكسيك.

ولعلّ الشاعر لويس ثيرْنودا، الصوت المتفرّد ضمن جيل 1927، هو الأكثر بروزاً في مجال الترجمة إلى جانب الشاعر بِيدْرُو ساليناس، لأنه ترجم عن الفرنسية والإنكليزية أعمالاً لأعلام الأدب الأوروبي مثل بول إلوار وشكسبير، وبْليك وكيتس ووُرْدزورث وآخرين.

هكذا، سعدت الترجمة بحضور نصوص أخرى ضيفةً على الثقافة الناطقة بالإسبانية، مثلما سعدت العربية بحلول الأدب المكتوب بالإسبانية، خصوصاً أدب أميركا اللاتينية، ضيفاً عليها عبر المترجم الفلسطيني صالح علماني الذي يعيش إلى اليوم شقاء المنفى. لكن ترجماتِه تُسعد قرّاء كثيرين وتسعَد بإقبالهم عليها.

المساهمون