لم ينتبه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى أن وصفه تحطيم المحتجين في بلاده لتمثال تاجر الرقيق إدوارد كولستون بأنه "عمل إجرامي" ينتمي إلى مرحلة تاريخية توشك على الأفول، وسينتهي معها أيضاً تذكيره لهم بأن عليهم المطالبة بإسقاط النصب عبر الوسائل الديمقراطية.
كان بوسع كولستون (1636 – 1721) في تلك المرحلة أن يتاجر بالبشر باعتبارهم متاعاً تعود ملكيته لبريطانيا العظمى، التي يحق لها أن تصادر حريتهم وكرامتهم ليعملوا بالسخرة في مستعمراتها المنتشرة ما وراء البحار، ثم يعود إلى مسقط رأسه في بريستول ويمارس تطهره عبر بناء المدارس والمستشفيات ليستحق بعدها احتفاء وتكريماً إلى الأبد.
لقد قالت حركة "حياة السود مهمة" كلمتها بهدوء حين ألفت بإرث ثلاثمئة عام في نهر إيفون، وأعضاؤها يهتفون ويرقصون ويغنّون ابتهاجاً بإسقاط رمز العبودية، غير آبهين بذرائع أطلقها متحذلقون حول "تاريخية" التمثال التي قد تمنح العظة والعبرة، ليردّ عليها ناشطون أنهم لم ينسوا النازية والفاشية يوماً رغم عدم وجود تماثيل لزعمائها حيثما حكموا في القارة الأوروبية.
مفارقة حضرت في مشهد الاحتجاجات السلمية وسط لندن، السبت، والتي شهدت اشتباكات بين متظاهرين ورجال الشرطة، حيث استخدم المتظاهرون الحبال لإسقاط "كولوستون" تذكّر بالحبال التي قُيّد بها الأفارقة قبل ثلاثة قرون، ولكنها اليوم باتت وسيلة لانتزاع الحرية لا تقييدها.
وجرّ المحتجون التمثال وراءهم ليقولوا لأحفاد ثمانين ألف رجلاً وامرأة وطفلاً جرّهم كولستون إلى الأميركيتين بأن لا عودة إلى الوراء، ولا أنصاف حلول وتسويات تفرضها أنظمة لم تتخلّص من ماضيها العنصري لليوم، وليست قادرة على تخيّل من استرقّوهم اليوم أحراراً مثلهم تماماً، يجب أن ينالوا الحقوق ذاتها دون قانون انتخاب أميركي لا يزال يميّز في تمثيل الدوائر، أو رجال أمن لا يساءَلون إذا قادتهم الكراهية إلى تعذيب وقتل كل من لا يشبههم.
في محاكاة لن تُمحى من ذاكرة العالم، جثا أحد المتظاهرين بركبته على رقبته في مشهد يشبه ما لقيه الأميركي، من أصل أفريقي، الأعزل جورج فلويد حين قتله شرطي أبيض البشرة ثبّت ركتبه على رقبته لأكثر من ثماني دقائق.
لافتات عديدة رفعها متظاهرو بريستول، كان أبرزها: "لا أستطيع أن أتنفس"، ليحمل المشهد مجازاً من نوع آخر حين خرج الملايين من دون كمامات كان فرضها فيروس "كوفيد - 19" طوال ثلاثة أشهر سابقة، فهذه المرة هم يقاومون وباء أكثر وحشية وفتكاً، وآن أوان مواجهته وقد تم التوافق على مطالب أساسية لم يعد بالإمكان تجاوزها، وعلى "الرجل الأبيض" أن يتصالح مع نفسه وينزل عن الشجرة التي حجبت الكثير من الانتهاكات التاريخية بشعارات تدعي العدالة والحرية والديمقراطية.
أنهى المحتجون مهمتهم بعد أن استخدموا قاعدة التمثال ليقفوا عليها ويلقوا كلماتهم ضدّ جميع أشكال التحيّز التي عليها أن تنتهي أولاً في الأذهان، قبل أن يعاد النظر في عنفها الرمزي التي تعبّر عنه العديد من التماثيل وأسماء الشوارع التي تؤذي بريطانيين، من أصول عالمثالثية، ومقيمين في بلد تتعهّد قوانينه بالمساواة، وفي الأزمات التي تعيشها تجمعاتهم حيث تتدنى مستوى الخدمات المقدّمة هناك.
وفوق ذلك كلّه، أتت كورونا ليتقدّم الأطباء والممرضون والعاملون في المجال الصحي من دول العالم الثالث على امتداد القارة العجوز، خطوط المواجهة الأولى ويقدّموا العلاج ليس للمرضى فقط، بل من أجل الاستشفاء من دعوات اليمين المتطرف التي أسكتتها الجائحة.
عودة إلى التمثال؛ فإننا إزاء حادثة لن يكون ما قبلها مثل ما بعدها. لقد سقط إدوارد كولستون وستنهار معه مرحلة تاريخية بأكملها.