بودريار.. شاهد على اغتيال الواقع

06 مارس 2017
(بودريار في بيته، 1985، تصوير: أولف أندرسن)
+ الخط -

منذ السبعينيات، كل شيء تحرّر. عن ذلك العقد، كتب جان بودريار في "شفافية الشر" (1990): "كان حفل عربدة شاملٍ للواقعي، للعقلاني، للجنسي، للنقدي..." ثم تساءل، بتلك النبرة التهكمية التي لا تفارقه "ماذا بعد حفل العربدة هذا؟ هل نحن محكومون بأن نصطنع ونكرّر عملية التحرّر وإن أصبحت خالية من المعنى، بما أن نتائجها صارت خلفنا؟". نكتشف هكذا أن التحرّر من أجل التحرّر قد انقلب إلى فعل ضدّ التحرّر نفسه.

كان من المفترض أن "نهاية التاريخ" التي أعلنها فرانسيس فوكوياما في 1992 ستؤدّي إلى تحرير ودمقرطة عالمية، ليتّضح أنها لم تكن سوى "وهم بالنهاية". أما بالنسبة إلى "عصر المعلومة" والتواصل الحرّ في شبكات افتراضية فها هو يجعل التفاعل الحيّ أندر، ومن ثم يبتلع العالم الواقعي. خلال أربعين سنة، كتاباً إثر آخر، جعل بودريار لنفسه متعة ماكرة في قلب معتقدات كثيرة.

في 1970، لفت إليه الأضواء بـ "محاولة" (كتاب بين الرأي والبحث العلمي) بعنوان "مجتمع الاستهلاك". إنها نهاية "الثلاثين المجيدة"، المحال التجارية لا تكاد تفرغ والإعلانات تغزو الفضاء. وبودريار كان يلقي ملاحظاته: لم يعد الفرد يستهلك من أجل تلبية احتياجات أساسية، ولكنه بات يلبّي احتياجات أشعل فتيلها التسويق، وأخرى فقط من أجل تقليد الآخرين أو من أجل الاختلاف عنهم. التسوّق أصبح شكل البحث المعاصر عن السعادة. الأخلاق الجديدة. أخذ الشيء أسبقية على الموضوع. ويختتم بالإشارة إلى أن "من يعيش الحرية هو المجبر على الامتثال". أفكارٌ سيواظب على تأصيلها في أعمال لاحقة "المصطنع والاصطناع" (1981) و"اليسار الإلهي" (1985) و"أميركا" (1986).

تحت تأثير نظريات مرشال ماكلوهان حول الانتشار المادي والفكري للميديا، ترك كتاباته تعكس رعباً في كوننا مُسقطون في قلب تركيبة من العوالم الإعلامية التلفزية الإعلانية الثقافية. دوّامة عملاقة من الشاشات التي تنقل وقائع ذات بعد درامي تشغل كلّ اهتمامنا، وكلّ متخيّلنا وكلّ أجسادنا أيضاً.

لم يكن ثمة مسافة نقدية بيننا وبين هذا الكون المصنوع من الرموز، والصور المقطّعة في سيناريوهات، أو كما يقول بودريار، الميديا أصبحت "تُخرج" الحدث بإقصائه من الواقع (إخراج في العربية تحمل للمصادفة المَعنيين: الإقصاء وتحويل شيء ما إلى صورة سينمائية).

في نصوصه حتى سنة 2000، تتالت الأمثلة التي يضربها بودريار ليفسّر فكرة "تجاوز الواقع" بمفعول تكاثر الاصطناعات. "اليسار الإلهي" يدّعي أنه سيغيّر العالم ولكنه في النهاية لا يقوم سوى بإدارة الأزمة، والمدن القديمة ومعالمها تحوّلت إلى متاحف، والأجسام التي تصنعها قاعات الرياضة والجراحة التجميلية تصبح أكثر فأكثر شعبية، فيما تتحوّل الأحداث إلى فرجة جماعية (حرب الخليج أو موت ديانا) تصنع إيقاع حيواتنا العاطفية.

هذه النظرية حول عالم من الاصطناعات سوف تطير إلى أميركا، وينضمّ اسم بودريار إلى أسماء جيل دولوز وجاك دريدا وميشال فوكو ضمن ما يعرف بـ "النظرية الفرنسية"، تلك القاعدة الفكرية التي استعارت أفكار فلاسفة فرنسيين وهزّت الفكر الأميركي لاحقاً.

إلى اليوم لا تزال تصدر هناك "المجلة الدولية للدراسات البودريارية" والتي تستقطب عشرات المثقفين والأكاديميين والفنانين للتحاور مع فكر بوديار، ومؤخراُ (2016) نُشرت مادة بعنوان "أشياء بودريارية تتنقل في الفضاء الافتراضي".

تتجاوز تأثيرات المفكّر الفرنسي دوائر المثقفين، منذ أن ظهرت هذه التأثيرات أيضاً في السينما وخصوصاً في أفلام الخيال العلمي. كانت المخرجة كاثرين بيغلو قد ساهمت في المجلة بمقال نشرته في 2007 أشارت فيه إلى أن فكرة تحوّل الصورة إلى شيء أكثر واقعية من الأصل كان مصدر إلهام دائم.

كما اشتغل مؤرّخ السينما جان باتيست توريه على تعداد الأعمال السينمائية التي تسبح في المناخات البودريارية، والتي يوضّحها بكونها سينما تمرّر لمشاهِدها شعوراً بأن العالم يتآمر في نفس الوقت الذي لا يجري فيه إخفاء أي شيء.

تبدأ هذه التأثيرات في الظهور منذ فيلم "فيديودروم" (1983) لـ دافيد كرونبارغ، لتبلغ ذروتها في "دارك سيتي" (1998) لـ أليكس بروياس و"ترومان شو" (1998) لـ بيتر وير، وخصوصاً في ثلاثية "ماتريكس" (1999 – 2003) للأختين واشوفسكي.

كان بودريار متابعاً لمثل هذه الأفلام، فالسينما مثلها مثل تقنيات الكمبيوتر تنسج أمام عينيه خيوط شبكتها حول العالم. كان يرى تسارع الانزلاق في إنهاء واقعية العالم، وفي 1995 أعلن في مقالتين ثم في كتاب بعنوان "الجريمة الكاملة" عن "اغتيال الواقع".

لقد بدا له أن التتابع الذي لا يتوقّف للذهاب والإياب بين الواقعي والافتراضي بدأ يوصلنا إلى تداخل بينهما، ليصنعا مركّباً جديداً "الواقع الشامل" يصوّره بالقول "وكأن الأشياء ابتعلت مراياها". ويستنتج أن "الواقع قد طرد الواقع"؛ إنه وضع "الشاشة الشاملة".

أتت حرب الخليج في 1991 كمثال جاهز أمام بودريار، في مقالين نشرهما في "ليبراسيون"؛ الأول بعنوان "حرب الخليج لن تقع" (4 كانون الثاني/ يناير 1991) و"حرب الخليج لم تقع" (29 نيسان/ أبريل 1991).

يعتبر صاحب كتاب "استهلاك الرموز" أن لا أحد شاهد هذه الحرب من فرط ما غطّتها وسائل الإعلام. إنها حرب تذكّره بألعاب الفيديو، حرب بلا محمول جنسي، جراحية (بالمعنى الطبي)، لا يظهر فيها العدو إلا كمستهدف على شاشة جهاز كمبيوتر، هي بعبارة أخرى "لا حرب".

عند هذه العتبة من التحليل، وُجّهت انتقادات كثيرة إلى بودريار، كتلك التي أطلقها عالم السياسة فيليب كوركوف إذ رأى أن نظرياته لا تعدو أن تكون "عدمية مثقّف جالس أمام تلفازه". هذه الانتقادات ستظهر مرة أخرى بعد أن علّق بودريار على أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 واعتُبر موقفه تبريراً لها، حين كتب (3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2001): "منطقيٌّ ما حدث، كان سيحدث لا محالة، فصعود القوّة يهيّج الرغبة في تدميرها". الجميع كان ينظر إليه كمفكّر محمول بعناصر نظريّته، ولم يعد يرى الواقع المرعب.


Frédéric Joignot كاتب صحافي وروائي فرنسي، من أعماله "اسرقوا هذا الكتاب" (1978) و"القرف المعطّر" (1994) كما أخرج فيلماً قصيراً بعنوان "المتفرّج القرصان". المقال نُشر قبل يوم من الذكرى العاشرة لرحيل بودريار في صحيفة "لوموند" الفرنسية.

** ترجمة: شوقي بن حسن

المساهمون