هشام عيوش.. "حمّى" المهاجر وأسئلته

08 ديسمبر 2014
لقطة من الفيلم
+ الخط -

يعود المخرج المغربي هشام عيوش في ثاني أفلامه الطويلة، "حمّى"، ليضيف قصة أخرى عن المهمشين إلى متنه السينمائي الذي، رغم محدوديته، يعلن عن انحياز صريح لهذا المنحى الموضوعاتي. يمكن تتبع ذلك في فيلمه الأول "شقوق (2011)، الذي يحكي مصائر ثلاث شخصيات تتقاذفها عوالم مدينة طنجة، وكذلك من خلال ثلاثة أفلام قصيرة، هي "وشم العذاب" (2002)، "على جناح" (2004)، ثم "بخط الزمان" (2005).

يختار عيوش سينما الهجرة كمدخل لقصة بنجامين، طفل في الثالثة عشرة من عمره، يعيش حياة مضطربة وموغلة في الضياع مع أمه الفرنسية التي انفصلت عن زوجها المغربي، الذي لا يعرف عنه بنجامين أي شيء. لكن الطفل سيضطر إلى الانتقال للعيش مع والده بعد الزج بأمه في السجن، ليجد نفسه داخل عالم غريب عنه، يستند إلى قواعد تختلف عن تلك التي يؤمن بها هو الطفل الذي يعيش فترة مراهقة قاسية.

لذلك، سيغلب العنف والرفض والتمرد على لغته وعلاقته مع أفراد عائلته الجديدة، ليتبنى سلوكات مستفزة لها. وفي حال الضياع هذه، يجد صديقاً فريداً، كلود، المهاجر من جنوب أفريقيا، الذي يتخذ عربة سياحية كمنزل له في ضواحي المدينة. سيصبحان صديقين رغم فارق السن بينهما ورغم لغة كلود الشاعرية والبعيدة عن فهم بنجامين الذي لا يهتم بإدراك كل ما يقوله صديقه بقدر ما يهتم بدفء صداقته.

ليس بنجامين وحده من يعيش الاضطراب والفقدان، بل تغرق كل الشخصيات في البحر نفسه. فوالده يعيش من دون هدف، بعواطف باردة، وحياته مليئة بالخواء. أما الجد، فيحلم بالعودة إلى الوطن وبناء منزل وقضاء مابقي له من عمره هناك، بعدما اكتوى بجمر الهجرة.

ولا يكتفي المخرج بقضايا تهم المهاجرين المغاربة فقط، بل جعل القصة تنفتح على الإنسان المهاجر، لذلك سيعالج حيوات أخرى كحياة كلود، الذي هرب من الحرب والدمار في بلده، في جنوب أفريقيا، إلى معاناة أخرى تبدو ناعمة، ولكنها دمّرت دواخله؛ وهناك أيضاً أطفال مهاجرون آخرون بمشاكلهم واحتياجاتهم اللانهائية.

إن رحابة القصة وعدم اقتصارها على جنسية واحدة، وعرق واحد، أو فئة واحدة، جعلت الفيلم يقف في منطقة مشتركة بين الإنسان المهاجر، والإنسان الفرنسي نفسه. هذا التنوع أظهر الفيلم بوجه عالمي، وأبعده عن المحلية التي يغرق فيها العديد من الإنتاجات السينمائية العربية. فالمخرج جعل شخصيته الرئيسة تتجول في فضاء شاسع، وأثناء هذه الرحلة كانت الكاميرا توسع من دائرة التقاطاتها، لتتعدد الشخصيات وتتعدد معها المعاناة والمعالجة الدرامية.

ليس صعباً أن نلاحظ أن هشام عيوش تبنى اختيارات فنية مغايرة تماماً لتلك التي اعتمدها في فيلمه الطويل السابق الذي اعترف، هو نفسه، أنه لم يستند فيه إلى نص مكتوب، فاختار بشكل غير مبرر أحياناً كاميرا محمولة على الكتف، ولقطات سريعة ومربكة، جعلت الفيلم فقير فنياً، ومضمونياً.

لذلك، نجده في شريطه الجديد يناقض خياراته القديمة، ويراهن بشكل مقصود على تجاوز منجزه السابق. فأول ما يلفت الانتباه جودة السيناريو الذي كتبه المخرج مع عائشة اليعقوبي وعبد الحفيظ بن عثمان؛ إذ ثمة عناية خاصة بمستويات اللغة الموظفة في الحوار، ثم المزاوجة بين لغة الشارع العنيفة، ولغة شاعرية جميلة كانت في الغالب مقتصرة على شخصية كلود. غير أن اعتماد الفرنسية لغة وحيدة، أفقدت الفيلم هويته. كذلك، يظهر الفضاء شاسعاً ومتنوعاً، وغير مقيد، رغم محدودية الشخصيات التي تملأ مساحاته.

اختار المخرج الكاميرا الثابتة وجعلها مواجهة للشخصيات أينما حلت، خصوصاً بنجامين، الذي نال النصيب الأكبر من التقاطاتها. وأصر عيوش في بعض الأحيان على التركيز على وجه بنجامين في شجاعة غير محسوبة منه، لأن هذه الشخصية لم تقدم التعبيرات اللازمة في كل مرة اقتربت منها الكاميرا.

مستوى الألوان والإضاءة ساهما في رسم جو القلق والاضطراب والقتامة المحيط بالقصة من كل جوانبها. وصحيح أن الموسيقى التصويرية لم تحضر بشكل كبير، لكنها أكملت رسم حلقات المشاعر والعواطف في الفيلم. كما استطاعت لغة الفيلم تضمين التيه في أغلب المشاهد، ليصبح رسالة بارزة لا يمكن تجاوزها.

من جهة ثانية، بدت القصة أحياناً فاقدة للحيوية والتشويق، خصوصاً عند استغراق بعض المشاهد في السرد من دون أن تحمل جديداً على مستوى تطور الأحداث. هذا التكلف جعل نواة الفيلم مناسبة لفيلم أقصر زمنياً من الذي شاهدناه في 90 دقيقة، وكانت الحكاية لتنتهي من دون الوصول للمدة التي اختارها المخرج وطاقمه التقني.

يعتبر فيلم "حمّى" من الأعمال القليلة التي تجنبت الدخول في معترك نقدي مضاد لاختيارات المخرجين المغاربة الشباب الذين تشبعوا بثقافة سينمائية فرنسية، لأنه لم يحرك قضايا صارت ثابثة في هذا التوجه الحداثي، مثل الجسد والتابوهات والأوضاع الاجتماعية في البلد الأم، لكنه وقع في مأزق آخر هو مأزق الهوية. إذ لا مبرر لاختيار فرنسا مكاناً أوحد للتصوير، وتبني الفرنسية فقط لغة للحوار وتغييب العربية رغم وجود شخصيات رئيسية مغاربية الجنسية.

كان التنوع في اللغة ومواقع التصوير ليضيف الكثير للقصة، خصوصاً أن رهان المخرج تمثل في نقل صورة عن معاناة المهاجر المغاربي في الدرجة الأولى.

المساهمون