رسائل نينو غرامشي إلى أمّه

04 يونيو 2014
+ الخط -

عند الحديث عن الترجمات في الآداب والعلوم الإنسانية، يمكن القول إن الأدب يطغى على اهتمام دور النشر العربية بسبب الربحيّة النسبية في بيع عناوينه. وإن أردنا التفصيل أكثر، لأشرنا إلى طغيان الرواية على غيرها من الأجناس الأدبية.

أما فيما يخص النقد والفلسفة وعلم الاجتماع، فتحاول دور النشر تجنّبها قدر الإمكان، كونها علوماً اختصاصية، وبالتالي نخبوية. وترجمتها تختصّ بها بضع مؤسسات، لا دور نشر تجارية. وإن أردنا التفصيل أكثر لقلنا أن هذه المؤسسات تتجنّب قدر الإمكان ترجمات لنصوص ماركسية في مجالات العلوم الإنسانية كافة. ومن أراد اليوم (من أبناء جيلي مثلاً) قراءة مثل هذه النصوص لاستصعب إيجاد ترجمات جديدة، واستسهل تالياً القراءة في كتب مطبوعة قبل عقدين أو ثلاثة ومتاح بعضها على الإنترنت.

لكن رغم هذا الاستسهال تبقى الكتب القديمة المترجمة إلى العربية محدودة، والأهم أنها غالباً تعوزها المصداقية والأمانة لخضوعها إلى تحرير وانتقاء مؤدلج من قبل الجهة المترجمة لها، أفراداً كانوا أم مؤسسات، كالأحزاب الشيوعية. الاستسهال الآخر للوصول إلى هذه النصوص سيكون اللجوء إلى لغات وترجمات أخرى غير العربية.

تناوُلنا لهذه المسألة يبرره صدور ترجمة عربية لبعض الرسائل التي كتبها أحد ألمع المفكرين الماركسيين وأحد مؤسسي الحزب الشيوعي الإيطالي، وقائده لفترة، أنطونيو غرامشي. رسائل صدرت حديثاً في كتاب عن دار "طوى للنشر" بعنوان "رسائل السجن، رسائل أنطونيو غرامشي إلى أمه (1926 ـ 1934)" وترجمة سعيد بوكرامي.

على الغلاف الخلفي للكتاب نقرأ أنه "الجزء الأول" لنصوص غرامشي المعروفة بـ"دفاتر السجن". لكن، بغض النظر عن الترجمة المتواضعة، إنها مبادرة جيدة أن يُترجم تراث غرامشي أو بعضه إلى العربية، لعدم توفّر غير مختارات من نصوصه الفلسفية والمعنية بتوضيح مقتضب لبعض مفاهيمه التي أدخلها إلى الماركسية (المثقف العضوي، المجتمع المدني والمجتمع السياسي، الهيمنة الثقافية، حرب المواقع...)؛ وهي من الترجمات المنشورة قبل عقود.

لكن لمَ صدر الكتاب المذكور في أقل من 100 صفحة ولم يتم تضمينه رسائل غرامشي إلى زوجته وآخرين، علماً أن نشر نصوصه الفلسفية الشاملة سيتبع في أجزاء أخرى، كما بشّرت المقدمة؟ نقول ذلك لأن نصوص غرامشي التي كتبها في السجن تزيد على 30 دفتراً في 3000 صفحة. كم كتاباً سيتم ترجمته من هذه النصوص إن اكتفى أولّها بـ97 صفحة؟

على أي حال، تبقى المبادرة جيدة لأنها رسائل نُقلت إلى العربية للمرة الأولى، كما ذكرت المقدّمة، وتكشف لقارئها الحس الإنساني لهذا المفكّر السياسي المهم الذي ينهي رسائله لأمّه بعبارات رقيقة كهذه: "أقبّلكم جميعاً، أما أنت يا أمي العزيزة فأضمّك بين ذراعي وأبعث إليك قبلاتي اللانهائية. نينو".

في معظم رسائل نينو لأمه يكتب مطمئِناً إياها عن صحّته، وأنه يأكل وينام ويكتب جيداً، وأنه سيخرج قريباً، وأن اعتقاله سياسي فحسب، وأن لا سبب كي تقلق. لكنه يعرف، كما نعرف نحن الآن، أن ما كتبه لم يتعدّ حدود الطمأنة، فقد خرج من السجن بسبب تدهور حالته الصحّية، ومات بعد ذلك بأقل من سنتين.

يقول غرامشي لأمه في إحدى رسائله: "فكّري أنني مطمئن تماماً، ومتيقّن أن هذه القضية ستؤول إلى نهاية جيدة وسريعة". وفي رسالة أخرى يقول: "أرسلي إلي صورة جميلة لك، لكن التقطيها كما لو أنك في البيت، دون أبّهة، أليس كذلك، ودون تأنق مفرط. أقبّلك بقوة. نينو".

أما الجملة الأشد وقعاً التي نقرأها في إحدى هذه الرسائل: "في العمق، وبطريقة أو أخرى، أنا مَن أراد هذا السجن وهذه المحاكمة، بما أني لم أتراجع أبداً عن آرائي التي من أجلها أنا مستعد للتضحية بحياتي وليس فقط البقاء في السجن. وبالنتيجة، لن أكون إلا فرحاً ومرتاحاً من نفسي".

المساهمون