يمكن اعتبار المشروع الكبير الذي حرّره الناقد والقاص والروائي السوري محمد كامل الخطيب، وسمّاه "قضايا وحوارات النهضة العربية"، علامةً بارزة في المحاولات المعاصرة التي سعت جادّةً لإعادة الاعتبار للنهضة العربية، ولقضايا النهضة، التي نوقشت في مدّة تزيد أو تنقص عن مائة عام.
ولقد قدّم المشروع مادةً شديدة الغنى للقارئ العربي الذي لم يطّلع على تلك المكتبة المهمّة التي أنتجها أولئك الذين ساهموا في الصراع الفكري الذي احتدم في تلك الحقبة، بحيث تمكّن من تغطية معظم المجالات الفكرية إبان الفترات الممتدّة من منتصف القرن التاسع عشر، إلى منتصف القرن العشرين، بين ممثّلي القديم والجديد والعروبة والإقليمية والطربوش والقبّعة، والرواية والقصة والمسرح والفصحى والعامية وغيرها من القضايا التي شكّلت بؤراً للصراع والتنازع على المستقبل.
ومن أبرز الحوارات تلك التي دارت حول الشعر، وقد بدأت بوادر النزاعات منذ أن كتب سليمان البستاني مقدّمة الترجمة العربية التي أنجزها للإلياذة، حيث تناول فن الشعر ودعا فيها "إلى انفتاح الشعر العربي على "شعر" الثقافات الأخرى"، ومن بعد البستاني ظهرت "مدرسة الديوان" التي تزعّمها العقّاد والمازني وحاولا من خلال كتبهما أن يقدّما مفهوماً جديداً للشعر، ليأتي من بعدهما شعراء مجلّة "أبولو"، ثم تبدأ حركة الشعر الحديث، وشعراء مجلّة "شعر"، والنقاشات حول الشعر الحديث التي عكست إلى حد بعيد مضمون القوى الاجتماعية والأيديولوجية المتنازعة في منتصف القرن الماضي، حين أضحى العرب أمام مفترق الطرق الحاسم بشأن مصيرهم.
ومن المؤسف أن لا تكون لدينا مراجع تاريخية واجتماعية تقدّم مسحاً للكيفية التي تتغلغل فيها الأفكار الجديدة في الوجدان العام، ومن الصعب معرفة المواقف التي اتخذها مجموع الناس من قضايا النقاش الدائرة، ولكن الحاضر الذي نعيش فيه يقول لنا إننا لم نحقّق الكثير من الآمال التي كان روّاد النهضة العربية يسعون وراءها.
يمكن استثناء الإبداع الأدبي من قائمة الفشل. ومن المعروف أن الشعر الحديث قد حقّق انتصاراً حاسماً ونهائياً على الشعر العمودي القديم، وألغاه تقريباً من المشاركة في الحياة اليومية العربية، غير أن اللافت هو أن القوى الاجتماعية المتنوّرة التي كانت تقف بطريقة ما خلف حملات الدفاع عن هذا الشعر قد أخفقت في جميع الميادين الحياتية الأخرى.
ومن الواضح لمن يتتبّع طبيعة المعارك بين الكتّاب العرب حول هذه المسألة من مسائل النهضة العربية، والوجود العربي، أنّ المدافعين عن الشعر الحديث إنما كانوا يدافعون عن الحياة العربية الجديدة، وهم يعتقدون، وكان اعتقادهم مبنياً على قاعدة متينة من العلامات، أنَّ انتصار الشعر إنما يُشير إلى انتصار قيم الجديد.
لمَ لم ينتصر غير الشعر؟ وكيف يمكن أن يصبح التعبير الإبداعي أو الفكري بعامة متقدّماً على القوى الاجتماعية التي كان يمثّل أحد طموحاتها؟ ولماذا أخفقت جميع تلك المشاريع السياسية والاقتصادية التي كانت حلماً جماعياً للعرب في النصف الثاني من القرن العشرين، أي بعد التحرّر من الاستعمار؟ بينما ظلّ التعبير الأدبي في الشعر والرواية والقصة على وجه الخصوص قادراً على الاستمرار؟