من فعل هذا؟

15 ديسمبر 2017
نهاد الترك/ سورية
+ الخط -
في محاضرة ليوسف الخال ألقاها قبل ستين عاماً، أعلن أن الشعر العربي ظلّ متخلفاً عن روح العصر، وأن الحداثة التي سبقت جيله هي حداثة في الزمن لا في المحتوى والرسالة، وأما روح العصر التي يدعو إليها فهي: روح العلم وإعادة النظر في الموروث والمعتقدات والحرية والكرامة الإنسانية والأخوّة البشرية والإبداع وفضّ مغاليق كل سرّ.

وقد يبدو غريباً أن تكون هذه المحاضرة قد ألقيت في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين، إذ كان قد مضى قرابة قرن من الزمان على ابتداء العصر العربي الذي عُرف بعصر النهضة، حيث شكّلت تلك القيم أحلام أجيال من قادة الفكر والأدب والفن الذين نزعوا إلى المرادفة بين الحرية والعدالة الاجتماعية والقانونية والديمقراطية السياسية وبين روح العصر. وكانت البلاد العربية حينئذ قد تخلّصت من الاستعمار، وشهدت قيام ما عُرف بالأنظمة الوطنية. فهل يعني هذا أن شيئاً لم يتحقق على أرض الواقع، أو في الشعر الذي يتهمه الشاعر بالتخلّف؟

فإذا كان يوسف الخال يحثّ الشعر قبل ستين عاماً على تبنّي روح العصر الحديث، فما الذي يمكن أن يقوله اليوم إذا ما عاد حياً؟ وما الذي يمكن أن يكون قد تحقّق من أحلامه؟ وإذا كنا نتحدّث عن خلاصة قرن فقد أثبتت السنوات السبع الماضية في تاريخنا أننا ننتمي إلى روح أخرى قد لا تشبه أي روح حتى في عصورنا الماضية.

والمريع أن يكون لدينا كل هذا الخزّان من العنف والبلادة والحقد، وأن تكون الأنظمة الدكتاتورية التي مارست أبشع أنواع القهر والاستبداد هي إحدى أرواح عصرنا، وأن لا يكون للعلم أي دور خلاق ومنتج في بلادنا، وليس للعقل تأثير يُذكر في خياراتنا، والمريع أكثر أن بعض المناطق في سورية رأت انفلاتاً لا مثيل له للجريمة والقتل، وقد انحطّت أخلاق التعامل إلى الحضيض، فلا يحتمي الناس إلا بالقوة، وهي قوة يحتكرها الأوباش من غير المتعلّمين. وقد سادت بيننا حمّى الموت، وشرائع الغاب.

صدّق أو لا تصدّق. هنا قد هُمّشت القوانين، (أو هُشّمت) وراح كثير من الناس يأخذون قضاياهم بأنفسهم، خاصة إذا كانوا يمتلكون القوة، وقد غابت الدولة كما لو كانت قد ماتت. ومن الواضح أن هؤلاء هم الذين انتصروا اليوم، لا مطالب يوسف الخال أو غيره من أسلافنا. ومن الصعب أن تكون الأجيال العربية التالية قادرة على تلقف تلك الدعوات، أو إعادة إنتاجها، أو التبشير بها في أضعف الحالات.

والمؤسف أن ينضمّ رتل واسع من حملة الأقلام إلى حفلة الأوباش الغرائزيين التي يسفك فيها الدم العربي. بل ويسخر بعض هؤلاء من الحديث عن الكرامة، أو الأخوة الإنسانية، في حين يصبح خطاب القوة الغاشمة سيّداً في لغة ثقافتهم.

وخلال أكثر من مئة عام مضت كان مفكرو العرب يسألون: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ ويبدو أن علينا اليوم أن نسأل أنفسنا ما قد يساعدنا على النجاة من الكارثة: من فعل هذا بنا؟ ومن الذي أعاق دخولنا إلى روح العصر؟

المساهمون