على الرغم من أنّ تونس كانت سبّاقة بين كثير من الدول في إقرار فحص الزواج، فإنّ بعض العرسان يتهربون منه بمساعدة الشهادات المزورة، ما يعرّض حياة شركائهم لخطر يمكن أن يصل إلى حدّ الوفاة
تزوّجت مريم المستوري (25 عاماً) في 28 يوليو/ تموز 2017، لكنّ صحّتها تعكرت بعد شهر فقط من زواجها. باتت تعاني من آلام في المعدة وارتفاع في درجة الحرارة، لكنّ زوجها رفض في أيام التوعك الأولى نقلها إلى المستشفى، من دون أن تعرف مريم سبب هذا الرفض. تدهور صحتها دفع بعائلتها إلى التكفل بنقلها إلى المستشفى لتلقي العلاج، حيث خضعت لجملة من التحاليل، ليتّضح أنّها التقطت فيروس التهاب الكبد من الصنف "ب" حديثاً. لكنّ العائلة لم تكن تعرف سبب إصابتها بهذا المرض، لتعلم الزوجة في ما بعد من والدة زوجها إثر زيارتها لها أنّ زوجها يحمل هذا الفيروس، وهو من نقل إليها المرض.
تعكر صحة مريم أدى إلى وفاتها في 5 أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، أي بعد شهرين وأسبوع فقط من زواجها. وقد أثارت وفاة الضحية جدالاً كبيراً لدى الرأي العام، لا سيما بعد اتهام عائلتها الزوج بأنّه المتسبب في وفاة ابنتها بعد إخفائه حقيقة مرضه بهذا الفيروس. وقد جرى التعهد بفتح قضية للتحقيق في أسباب الوفاة وحقيقة إصابة الزوج بهذا الفيروس، خصوصاً أنّ محامية الضحية أكدت أنّ الزوج كان حاملاً لهذا الفيروس منذ سنوات، ولم يعلم زوجته بمرضه، كما قدّم لها شهادة طبية تثبت خلوّه من أي مرض معدٍ.
شهادات مزورة
حادثة وفاة مريم أثارت الرأي العام بعد تأكيد محامية الضحية تعمّد الزوج إخفاء حقيقة مرضه وعدم قيامه بالكشف الطبي الاجباري قبل الزواج. ربما لم تكن تلك الحالة الأولى التي تقع فيها الزوجة أو حتى الزوج ضحية للاستهتار بضرورة إجراء الفحص الطبي قبل الزواج لمعرفة ما إذا كان أحد الزوجين يشكو مرضا معدياً ينتقل عبر العلاقات الجنسية أو غيرها. لكنّها حالة أثارت الرأي العام نظراً لتمسك العائلة برفع قضية وكشف الحقيقة.
أحد الأطباء في مستشفى خاص يشير بحديث لـ"العربي الجديد" إلى أنّه صادف حالة مشابهة، فقد استقبل في عيادته امرأة بعد بضعة أيام فقط من زواجها، ليكتشف بعد إجراء التحاليل لها أنّها مصابة بالتهاب الكبد الفيروسي من الصنف "ب" حديثاً. وهو ما استوجب إجراء فحص وتحاليل للزوج أثبتت أنّه يحمل الفيروس منذ أشهر، لكن من دون أن يكون لديه علم بذلك. يضيف الطبيب: "بسؤال الزوج عن إجراء الفحص الطبي قبل الزواج لا سيما، أنّهما حديثا الزواج، أشار إلى أنّه لم يفعل، بل اكتفى بشراء شهادة طبية مزورة، تفيد بأنّه في صحة جيدة لكتابة عقد القران". يشير الطبيب إلى أنّ "بعض الأشخاص يتجاهلون بالفعل أهمية الشهادات الطبية المعتمدة في عقد القران والتي تضمن ضرورة القيام بكلّ الكشوف والفحوص اللازمة". يضيف أنّ جميع الناس يعلمون أنّ بعض الشهادات الطبية تقدم بطرق غير قانونية. فمن أراد الحصول على هذه الشهادة، ما عليه إلاّ التوجه الى طبيب وإبراز هويته ليتحصّل على الشهادة، من دون إجراء الزوجين فحوصاً طبية تثبت سلامتهما".
قانون متقدم
يذكر أنّ القانون رقم 46 لسنة 1964، المتعلّق بالشهادة الطبية السابقة للزواج ينصّ على أنّه "لا يمكن لضابط الحالة المدنية أو العدول الذين وقع اختيارهم لتحرير عقود الزواج أن يقوموا بإبرام الزواج إلا بعد أن يتسلموا من كلا الشخصين العازمين على الزواج شهادة طبية لا يزيد تاريخها على شهرين تثبت أنّ المعني بالأمر قد وقع فحصه قصد الزواج دون أن تذكر بها إشارة أخرى. ويكون تسليم الشهادة الطبية المنصوص عليها أعلاه إجبارياً في الحالات التي سيقع ضبطها بقرار مشترك من كاتبي الدولة للداخلية وللصحة العمومية والشؤون الاجتماعية حالما تتوفر الشروط الفنية لذلك".
كذلك، نصّ الفصل الثالث من القانون على أنّه "ينبغي ألا يسلم الطبيب الشهادة المنصوص عليها بالفصل الأوّل أعلاه إلا بعد الاطلاع على فحص طبي عام، وفحص الرئتين بالأشعة وتصويرهما إذا اقتضت الحال ذلك، إلى جانب فحص الدم. ويجب على الطبيب أن يطلع المعني بالأمر على ملاحظاته ويبين له مدى أهميتها. ويمكنه أن يرفض تسليم الشهادة إن تبين له أنّ هذا الزواج غير مرغوب فيه، وأن يؤجل تسليم هذه الشهادة إلى أن يزول خطر العدوى من المريض أو تصير حالته الصحية غير مضرة لذريته".
و"يمكن للفحص المنصوص عليه أعلاه أن يتم حسب اختيار المعنيين بالأمر إما لدى الأطباء والمختبرات الطبية المقبولة لهذا الغرض من طرف كتابة الدولة للصحة العمومية والشؤون الاجتماعية، وإما في المستشفيات العمومية. ويكون الفحص والتحاليل وكذلك تسليم الشهادة الطبية مجانياً إذا تم القيام بها بالمستشفيات، وفق الفصل الرابع من نصّ القانون. كذلك، نصّ الفصل السابع على أن "يقع تتبّع ضابط الحالة المدنية والعدول الذين لا يمتثلون لأحكام الفصل الأوّل من هذا القانون أمام المحكمة الابتدائيةـ ويعاقبون بغرامة قدرها مائة دينار (33 دولاراً أميركياً)".
لكنّ القانون وفق بعض المتدخلين لا يتم احترامه من قبل كثيرين لأنّه لا ينص على أيّ أحكام زجرية ضد الأطباء الذين لا يلتزمون بإجراء الفحوص الطبية الكاملة. كذلك، لا يلزم القانون الأطباء بالاحتفاظ بملفات الأشخاص الذين يسلمونهم شهادات طبية قبل الزواج، وهو ما يستحيل معه التثبت من مدى احترام هؤلاء للإجراءات القانونية. في المقابل، فإنّ الفصل 28 من مجلة واجبات الطبيب نصّ على أنّ "تسليم الأطباء لشهادات مجاملة يعتبر خطأ فادحاً قد يؤدي إلى مؤاخذة الطبيب تأديبياً".
اقتراح
وتتضمن الشهادة الطبية اسم الطبيب واختصاصه ورقم تسجيله في مجلس عمادة الأطباء ومكان مباشرته وعنوانه وبعض التفاصيل الأخرى عنه، وأنّ الشهادة "حرّرت بعد إجراء استجواب مدقق وفحص سريري. وبعد الاطلاع على نتائج الفحوص التكميلية المتعلّقة بفصيلة الدم والتهاب الكبد الفيروسي صنفي ب وج وصورة بالأشعة للصدر وفحوص أخرى (دون تحديد تلك الفحوص)". كذلك، تضمنّت أنّه "أعلم المعنيّ بالأمر بنتائج الفحوص السريرية والتكميلية وبالأعمال التي من شأنها الوقاية أو الحدّ من أخطارها عليه وعلى قرينه وأبنائه" من دون أن تكون تلك الشهادة متضمنة فعلاً نتائج الفحوص أو التحاليل. وتكتفي الشهادة الطبية في آخر ملاحظاتها بأنّه "يعاقب بالسجن لمدّة تتراوح بين سنة وثلاث سنوات، كلّ شخص يعلم أنّه مصاب بمرض سارٍ ويسعى عمداً من خلال سلوكه إلى نقله إلى أشخاص آخرين (القانون عدد 71 لسنة 1992 المؤرخ في 27 يوليو/ تموز 1992 المتعلّق بالأمراض السارية)".
تجاوز القانون وتسجيل بعض الحالات الأخرى التي يكون فيها الزوج أو الزوجة ضحية عدم إجراء الفحص الطبي يدفع بوزارة الصحة إلى إصدار بلاغ في شهر مايو/ أيار من كلّ سنة تدعو فيه المقبلين على الزواج إلى ضرورة إجراء الفحص الطبي السابق للزواج من دون استثناء. وذلك لحماية القرين أو القرينة والخلف من الأمراض المعدية على غرار مرض السلّ أو الأمراض المنقولة جنسياً على غرار التهاب الكبد الفيروسي صنف "ب" وفقدان المناعة المكتسبة "إيدز" من دون أن تتوافر إحصائيات عن نسبة الأمراض المنقولة جنسياً بسبب خرق القانون وعدم إجراء الفحوص الطبية والاكتفاء بالحصول عليها بمقابل.
بعض عدول الإشهاد المشرفين على إبرام عقود الزواج أشاروا في أكثر من مناسبة إلى ضرورة أن يعدّل القانون ليتضمن عقوبات أكبر ضدّ كلّ طبيب يتجاوزه، إلى جانب إنشاء مركز خاص في كلّ مستشفى محلي ومركزي لمنح هذه الشهادات الطبية. ويقترح هؤلاء أن يسلّم الزوجان شهادة طبية لعدول الإشهاد مرفقة بوثائق أخرى تثبت قيامهما بالفحص الطبي أيضاً. وليست مجرّد شهادة موقعة من الطبيب تفيد بسلامتهما.
وفي هذا الصدد، يشير خالد المدب، أحد عدول الإشهاد لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "الشهادات الطبية تلك تمنح من القطاع العام والقطاع الخاص. لكنّها تمنح مجاناً إذ أجريت الفحوصات في مستشفى حكومي، فيما تمنح بمقابل إذا أجريت في المستشفيات أو العيادات الخاصة. وهي تتعطل كثيراً في المستشفيات الحكومية وقد تبقى شهوراً قبل أن تصدر نتيجة التحاليل، ما يدفع بأغلب المقبلين على الزواج إلى اللجوء إلى القطاع الخاص لأخذها في وقت وجيز. وهنا قد تقع التجاوزات وتمنح للمقبلين على الزواج بمقابل مادي من دون إجراء الفحوص. وهو ما دفعنا إلى اقتراح أن يتضمن الملف رفقة تلك الشهادة جميع التحاليل الطبية التي تؤكد قيام المقبلين على الزواج بالكشوف اللازمة فعلاً".