استمع إلى الملخص
- قصص الأفراد المتأثرين: تتنوع قصص المهاجرين، مثل فرح جهمي التي تستعد للانتقال إلى فرنسا، وعلي حوري الذي يسعى لمنحة دراسية، وفاديا ديراني التي غادرت إلى عُمان، ووسام الذي انتقل إلى كندا لحماية عائلته.
- الأمل في العودة: رغم المعاناة، يبقى الأمل في العودة حاضراً، كما يعبر الثمانيني سعيد مطر عن أمله في العودة بعد انتهاء الحرب، بينما تسعى فاديا فارس لبدء حياة جديدة في كندا.
تتباين حالة اليأس من تكرار الحروب والأزمات المجتمعية والاقتصادية المتفاقمة في لبنان منذ سنوات، مع أملٍ لا يفارق وجدان كثير من اللبنانيين بأن بلدهم سيعاود النهوض، ولو بعد حين.
منذ اشتداد العدوان الإسرائيلي على لبنان، سجّلت البلاد حركة هجرة ملحوظة، إلى جانب موجات النزوح الداخلي غير المسبوقة التي تخطت المليون نازح، إذ طاولت موجات الهجرة مختلف الأطياف والمناطق، وحتى أولئك المقيمين في مناطق شبه آمنة. إذ يرى كثيرون في الهجرة خياراً حتميّاً لضمان مستقبل أطفالهم بعيداً عن الحرب.
يكشف الباحث في "الدولية للمعلومات" (شركة دراسات وأبحاث مستقلة)، محمد شمس الدين، لـ"العربي الجديد"، أنه "منذ 15 سبتمبر/أيلول الماضي، أي في غضون شهر ونصف شهر، سافر أكثر من 100 ألف لبناني، أغلبهم يحملون جنسيات مزدوجة، وغادر أكثريتهم نحو دول أوروبية، وآخرون نحو دول الخليج العربي ومصر وتركيا، وقد ارتفعت أعداد المغادرين نحو تركيا لوجود رحلات بالبواخر عبر الخط البحري الذي ينطلق من ميناء طرابلس، ومن بين المغادرين، قرابة 11 ألف لبناني توجهوا نحو العراق".
ويشير شمس الدين إلى أن "موجة الهجرة الحالية أكبر من تلك التي أعقبت انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب 2020، لكنها أقل من تلك التي شهدتها حرب يوليو/تموز 2006، كما أن عدداً من اللبنانيين غادروا البلاد منذ بدء الحرب على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. كل من يملك الفرصة سافر خوفاً من المجهول".
موجات الهجرة الحالية أكبر من تلك التي أعقبت انفجار مرفأ بيروت
نزحت فرح جهمي، من مدينة صور (جنوب) إلى منطقة جعيتا (شرق بيروت)، وهي تستعد حالياً للمغادرة إلى فرنسا، حيث يقيم زوجها وشقيقها. وتقول لـ"العربي الجديد": "كان من المفترض أن أسافر في 2 أكتوبر الماضي، غير أن الحرب أرغمتني على التريّث إلى حين إعلان هدنة ووقف إطلاق النار، إذ لا أستطيع ترك والديّ بمفردهما في هذه الظروف. ما إن تهدأ الأحوال، سوف أسافر على الفور، خاصة أنني أحمل بطاقة الإقامة في فرنسا، ولا أحتاج إلى تأشيرة".
وراودت فرح التي تتوزع عائلة والدتها بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، فكرة الهجرة في عام 2019، مع بدء الأزمة الاقتصادية، وتضيف: "كنت في فرنسا حين حجزت المصارف اللبنانية مدّخراتنا. ورغم ذلك عدنا إلى لبنان بعد انتهاء جائحة كورونا، وبدأتُ رفقة زوجي التأسيس من الصفر باعتبار أن الحياة في لبنان تتيح لنا تكوين أسرة بجوار الأهل والأصحاب. قرّرنا الاستقرار، والسفر إلى فرنسا بين الحين والآخر لتجديد أوراقنا، وبقينا على هذا المنوال رغم اندلاع حرب غزة، وإعلان حزب الله جبهة الإسناد، لكن مؤخراً، ومع تفاقم العدوان على لبنان، تجدّدت رغبتي في اللحاق بزوجي والاستقرار في فرنسا، وعدم العودة إلى لبنان".
وتأسف جهمي، وهي المديرة التنفيذية لمنظمة "Be Save" التي تُعنى بمناصرة حقوق النساء، لما ينتابها من شعور بفقدان كل شيء. وتتابع: "كلما قرّرنا أن نبني حياتنا في بلدنا اندلعت الحروب والأزمات والكوارث فدمّرت أحلامنا وطموحاتنا ومخططاتنا، وكلما خطونا خطوة إلى الأمام اهتزت الأوضاع وأعادتنا إلى الخلف. لا أعرف حقاً إن كانت رغبتي في الهجرة مجرد ردة فعل أم أنها شعور حقيقي، لكني بدأت تحضير أوراقي وتوضيب ثيابي وأغراضي. لم أتخلّ عن تمسكي بلبنان، لكن يبدو أننا ممنوعون من راحة البال في هذه البلاد، وصار لزاماً عليّ التفكير في مستقبلي المهني والعائلي".
تبدي فرح امتعاضها من "فكرة اعتياد الشعب اللبناني واقع الحروب والمآسي، وتقول: "من الضروري ألا نعتاد هذه الظروف الأليمة، ومن المؤسف أن نرى لبنان يفقد أصحاب الكفاءات والشباب المتفوقين، والذين يهاجرون، فيخسر الوطن طاقات مبدعة، ويبقى أولئك الذين يتعاطون الكبتاغون والترامادول. سيذهب وطننا حينذاك نحو الأسوأ".
بدوره، يلهث الشاب علي حوري، وراء منحة جامعية تمكنه من متابعة دراسة الطب في الخارج، وهو يتواصل منذ نزوحه من منطقة الرويس في الضاحية الجنوبية لبيروت إلى منطقة جل الديب، مع عدد من السفارات الأجنبية، ومع الجهات المعنية بتقديم المنح التعليمية. ويقول لـ"العربي الجديد": "لا أريد البقاء في لبنان، وأخطط للهجرة بأي طريقة لمتابعة دراستي الجامعية في الخارج، علّها تكون باب خلاص لأهلي، كي يغادروا بدورهم البلاد. أخاف على أهلي ومستقبلي، لذا اتصلت بسفارتَي هولندا وكندا في لبنان للسؤال عن المنح الجامعية، وقدمت على منحة جامعية في تركيا، خاصة أنني درست اللغة التركية، إذ كنت أخطّط لدراسة الطب هناك، غير أن أزمة المصارف اللبنانية أطاحت حلمي".
كان الشاب اللبناني من بين العشرة الأوائل في امتحانات الثانوية العامة، وهو يتحسر على الدمار الكامل الذي لحق بمنزله من جراء القصف الإسرائيلي، ويضيف: "لم أكن أدرك أن الهجرة ستتحول إلى هاجس يومي لا يفارق تفكيري. لم يتجاوز عمري 21 سنة، لكني لم أعد أحتمل العيش في بلد لا يمنحنا الأمان. سأترك حياتي وذكرياتي ورفاق الدرب، وأهاجر نحو أول دولة تفتح لي أبوابها".
من جانبها، غادرت فاديا ديراني، الأم لطفلتين، لبنان إلى سلطنة عُمان، حيث يعمل زوجها، بعد أن أصيبت ابنتها الصغرى (خمس سنوات) بصدمة نفسية إثر قصف محيط المنزل في بلدة قصرنبا (بعلبك - الهرمل). وتقول لـ"العربي الجديد": "هربتُ من الدمار والإجرام كي أنقذ حياة طفلتيّ بعد أن ذاقتا الذعر. تركنا خلفنا كل شيء، ولا نعرف إن كان منزلنا لا يزال قائماً أم تم تدميره. توجّهنا نحو الأردن، حيث قضينا ليلة واحدة، قبل أن نسافر إلى سلطنة عُمان. لكننا اليوم نعيش صراعاً نفسيّاً بين البقاء في السلطنة أو العودة إلى الوطن، ونعاني حالة من الضياع والقهر. لا ندرك إن كنا حقاً مهاجرين دائمين أم لفترة مؤقتة، وإن كنا سنتابع السنة الدراسية عن بُعد أم سنسجّل الطفلتين في مدرسة في السلطنة، علماً أن التكلفة مرتفعة للغاية في المدارس التي تدرّس اللغات الأجنبية، ولا أعرف ماذا سيحلّ بمهنتي مدرّسةً في لبنان".
كان وسام، الأب لولدين، ينوي الهجرة إلى كندا، غير أن الحرب الإسرائيلية على لبنان، وما رافقها من واقع أمني واقتصادي دفعه إلى الإسراع بالمغادرة لتجنيب عائلته مخاطر القصف والدمار ريثما تستقيم الأمور. ويسرد ابن مدينة بعلبك (البقاع الشمالي)، لـ"العربي الجديد"، كيف أن طريقهم نحو مطار رفيق الحريري الدولي في العاصمة بيروت كان محفوفاً بالمخاطر، ويقول: "كنا متعجلين لأننا كنا نخشى أن يقفل المطار، فنعيش أوقاتاً صعبة ومصيراً مجهولاً. لبنان سيبقى الأمل الدائم في نفوسنا، فهو الوطن والحياة، ومسقط رأسنا. لذلك عودتنا حتمية، لكن توقيت العودة ليس بيدنا. سينهض لبنان من جديد، وصمود الشعب سيحقق الانتصار. مهما طال بقاؤنا في كندا فسنعود".
ومن البرازيل، يروي الثمانيني سعيد مطر "أبو ربيع"، لوعة مغادرة الوطن. ويقول لـ"العربي الجديد": "زوجتي السبعينية تحمل الجنسية البرازيلية، لذلك عرضت علينا السفارة البرازيلية في لبنان فرصة المغادرة تفادياً لمخاطر الحرب الإسرائيلية التي أصبحت تطاول مختلف القرى والمدن. بعد محاولات الإقناع التي بذلها المقرّبون، وبناء على إصرار ابني ربيع المقيم في البرازيل، قرّرنا السفر والاجتماع بأحفادي هناك".
ويتحدث "أبو ربيع" عمّا عانوه من مشقة السفر، موضحاً: "كانت رحلتنا طويلة ومتعبة، وتأخرت الطائرة، فاضطررنا إلى الانتظار نحو 11 ساعة في مطار بيروت. تعذبنا كثيراً قبل الوصول إلى ساو باولو. كنا مرغمين على خيار السفر، لكن كلنا أمل بالعودة إلى لبنان لتمضية ما تبقّى من عمرنا في أحضان الوطن الذي لم نفكر يوماً في مغادرته".
من جانبها، كانت اللبنانية فاديا فارس، تستعد للعودة من تركيا من أجل التحضير لزفاف ابنتها الذي كان مقرّراً في أكتوبر الماضي، قبل أن تطيح الحرب كلَّ الخطط. وتقول لـ"العربي الجديد": "كنت أنوي العودة إلى منزلي في حارة حريك (الضاحية الجنوبية)، للاحتفال بزفاف ابنتي، ثم التوجه مع العائلة إلى كندا لعقد الزواج هناك. لكن الحرب دفعتني إلى إلغاء رحلتي إلى لبنان، والسفر بشكل مباشر إلى كندا، وبالتالي خسارة كل ما تكبدناه من أموال على الحجوزات المسبقة".
يعتصر الألم قلب فاديا، لدى سؤالها عن مصير هجرتها، وتقول: "لن أعود، فقد خسرت كل أملاكي في لبنان، سواء في الضاحية الجنوبية لبيروت، أو في جنوب البلاد، ولم يعد أمامي سوى أولادي الموجودين أصلاً في كندا، وإخوتي في الولايات المتحدة. سأتقدم بطلب لجوء في كندا، فقد فقدنا كل معاني الحياة في لبنان".