مواقف متبدّلة

08 يناير 2020
الولايات المتحدة تؤجج مواقف متنافرة عربياً (أحمد الربيعي/فرانس برس)
+ الخط -

يقول رجل يقترب من الواحدة والسبعين، بعدما يدلي برأيه طوال أكثر من عشر دقائق، فيستعرض القضية ويأتي بالشواهد التاريخية، ويمعن في التحليل والتفسير، ويحاول استشراف المستقبل، ويصل إلى قيمة ثابتة، إنّ ما توصل إليه هو "اليقين" النهائي. لكنّه يعترف أنّه كان منذ البداية يعرف هذا "اليقين" ولم يكن هناك من داعٍ لاتخاذ كلّ هذا المسار إلاّ لإقناعي بموقفه هذا.

يومياً، تصطدم بعشرات، بل مئات الآراء والمواقف وردود الفعل، تجاه أحداث معينة، بعضها معتاد وبعضها مفاجئ. الإنترنت ملعب هذه المواقف، بمختلف أشكال الأدوات والتطبيقات والمنافذ، ولعلّ وسائل التواصل الاجتماعي أبرزها في السنوات الأخيرة.

هذه المواقف تتخذ طابع الجمعانية في معظم الأحيان، والجمعانية نابعة من محور معين أو فريق معين أو مجموعة معينة، يتماهى معها الفرد فيشعر تلقائياً أنّه هو صاحب الموقف. في النهاية، تعتبر تلك الجماعات نفسها صاحبة "اليقين" وحدها، وكلّ ما يخالفها هو باطل في المطلق. وعندما يتماهى الفرد مع هذا "اليقين" قد يجد نفسه في نقطة معينة عند منعطف خطير، أو زاوية حادة، مع ما في ذلك من تحول كامل باتجاه موقف جديد كلياً تبعاً لتبدّل موقف تلك الجماعة أو ذاك الفريق الذي يشكل هو نفسه المنبع الأساس، لكن، لا مشكلة غالباً فالتحول مع الجماعة جائز طالما بقيت مظلتها فوق الفرد وإنّ تبدّل كلّ شيء في مسارها وأهدافها وغاياتها.
الشكل الأسهل من تكوين الرأي والموقف الشخصي هو المتماهي مع مجموعة كبيرة يستقوي بها الفرد، فهل كلّ هؤلاء على خطأ مثلاً؟ قد يكون هذا مبرره من دون كثير تفكير في المسألة. الأخطر أنّ بعض المواقف تكفيرية، فعندما تختلف مع الآخر تحاول إلغاءه بالكامل تبعاً لتراث مقدس غالباً، سواء كان ذلك دينياً أو طائفياً أو قومياً أو وطنياً.

مثل هذه المواقف يشتد كلّما كانت المجموعة التي ينتمي إليها الفرد ويتماهى مع خطابها، أقوى وأكبر وأكثر سطوة من غيرها في مجالات مرتبطة بتلك المواقف بالذات. أما على مستوى الفرد نفسه، فإنّه بالتأكيد أقوى وأكثر قدرة على إطلاق التهديدات والشتائم إذا ما كان مختفياً خلف اسم وهمي من دون صورة تعرّف عنه ومن دون معلومات شخصية موثوقة. هؤلاء معروفون بـ"الذباب الإلكتروني" في عالم الإنترنت، وبعضهم موظف بأجر لهذه المهمة.




لكنّ الرجل السبعيني يعترف مجدداً أنّ موقفه لن يتمكن من إلزامي به، بل يعلن مباشرة أنّ "كلّ شخص فينا لا يعتنق إلاّ ما يؤمن به، بعيداً عن كلّ ما يُعلنه أحياناً. هناك ما لا نقوله إلاّ لأنفسنا، مهما تماهينا مع مواقف جماعية، ومهما كثرت حملات التكفير ضدنا في المقابل".
المساهمون