حرّية الخارج... سوريّون يتنفّسون الديمقراطية

11 أكتوبر 2016
لهم الحق في التظاهر وتنظيم النشاطات (باتريك ستولارز/فرانس برس)
+ الخط -
ليست تجربة اللاجئين السوريين في ألمانيا مميزة فقط لأنّهم تمكنوا من مغادرة البلاد التي تهدد حياتهم بالموت اليومي، بل أيضاً لأنّهم يتنشقون هناك بعض الحرية والديمقراطية التي يتمنون لو أنّ بلادهم تتمتع بها

يعيش السوريون في ألمانيا اليوم تجربة مختلفة على صعيد البيئة واللغة والثقافة والعادات والقوانين. انتقالهم من بلاد لم يحظوا فيها بالحرية، إلى بلاد يأملون أن يعيشوا داخلها مواطنين متساوين أحراراً عليهم واجبات ولهم حقوق فيه الكثير من الصعوبات مع ذلك.

يواجه اللاجئون ظروفاً جديدة مختلفة كلياً في بعض الأحيان. من ذلك، فهم القوانين والانصياع لها، ومعرفة حدود الحرية، وتطوير شخصية المواطن، وتقبّل الآخر، وبناء علاقة ثقة مع أجهزة الدولة، ومعرفة المجتمع الألماني بشكل عميق والاندماج فيه.

هذه المهمات ليس سهلة، وقد بدأت الكثير من الجهات الألمانية تدرك أهمية أن يعرف السوري قوانين البلد الذي هو فيه، وكذلك ما له من حقوق وما عليه من واجبات، وتعليمه كيفية الحياة في ظل نظام ديمقراطي لم يعتد عليه.

اندماج في اتجاهين
لطالما هتف السوريون للحرية، وهم جديرون بها بحسب المحامي زياد منصف من حلب. يضيف: "المشكلة أننا هتفنا للحرية من دون معرفة مسبقة بها، ومن دون ممارسة حقيقية لها. جئنا إلى ألمانيا بتصورات خاطئة عن الحرية، وعلينا أن نتعلم كيف يمكن للمرء أن يعيش فعلاً هذه الحرية".

من جانبه، يقول الدكتور عمر العبد من حمص إنّ تجربة السوري جديدة للغاية في ألمانيا "خصوصاً أنّ معظمنا لم يخرج من أسوار مدينته أو حتى قريته. وجدنا أنفسنا مرة واحدة في أوروبا. لم نكن مهيئين بشكل كامل لهذه التجربة، بل تلقينا كلّ الصدمات دفعة واحدة، وسنحتاج إلى وقت للاعتياد على النظام الجديد".

في الإطار نفسه، تقول أمان عيد طالبة الدراسات العليا في علوم الإدراك المعرفي العصبي في جامعة برلين التي تعمل أيضاً في مجال التطوير المؤسسي والبشري: "أثناء دراستي عام 2014، عرض أستاذنا لمادة علم الأعصاب البروفيسور مالك بجبوج حالة ضيفة رافقتنا في المحاضرة. كانت تعاني من اكتئاب حادّ جداً طوال أعوام نتيجة انتقالها من بيئتها وثقافتها التونسية العربية المسلمة إلى البيئة والثقافة الألمانية بعد زواجها. حدثتنا عن تفاصيل تطور الألم داخلها وبواعثه، ومحاولاتها التغلب عليه بالاندماج، وكيف كانت محاولاتها تفلح مرة وتخيب مرة، إلى أن تفاقم لديها الألم وتطلّب التدخل الطبي".

هو جانب واحد من الجوانب الثقافية التي قد تؤثر على الإنسان حال انتقاله من بيئة لها ثقافتها وطابعها إلى بيئة مختلفة لم يعتد عليها ولم يسبق له أن تعامل معها. وفي حال الشباب الآتين من بلاد أقل انفتاحاً إلى بلاد الحريات والديمقراطية، فقد يشكل هذا الانفتاح المفاجئ صدمة ثقافية في البداية تؤدي إلى انفجار المكبوت دفعة واحدة باتجاه ما، وبشكل طائش، ليعود على صاحبه بالضرر. لهذا تقترح عيد إيجاد مراكز تيسر عملية الاندماج التدريجي لتعريض الآتي إلى بيئة جديدة لثقافة هذه البيئة، وتعريض البيئة نفسها إلى ثقافته بشكل متبادل، فلا تكون العملية في اتجاه واحد فقط. تؤكد أنّ الكثير ممن يعانون في ألمانيا، تعود أسباب معاناتهم إلى رفض البيئة نفسها لهم لسبب أو لآخر. وهذا ما يواجهه كثير من المسلمات المحجبات أو أصحاب السحنة الشرق أوسطية. تقول عيد إنّ هؤلاء يشعرون بتناقض ما بين الحديث عن الحرية الشخصية وحفظها لكلّ فرد في البيئة المتحررة في ألمانيا، وممارسات البعض التمييزية تجاههم، فتسلب حقوقهم الأولية بسبب حريتهم الشخصية وهيئتهم الخارجية، ومن ذلك حق العمل، والمساواة في الظهور الإعلامي وغيرهما.

مع وقف التنفيذ
يؤكد شبان وشابات أنّهم لم يشعروا بالحرية من قبل كما شعروا بها في ألمانيا، لا على صعيد التعبير عن الرأي، ولا على صعيد الحركة والتنقل والتظاهر. بل وجد البعض أنه قادر على التعاطي مع القضايا السياسية لأول مرة من دون قمع أو خوف أو ترهيب. وفي هذا الصدد يقول الناشط السوري الذي يعيش في دريسدن وائل العمري: "هي ليست المرة الأولى التي آتي فيها إلى ألمانيا. زرتها من قبل مراراً، والآن أمارس نشاطي السياسي وألاقي دعماً حقيقياً من الكثير من الألمان. بل ننظم نشاطات وتظاهرات واجتماعات مع رفاق قدامى ونعدّ بيانات سياسية. كلّ هذا كنت محروماً منه، ويهدد حياتي في السابق".

سيدة محجبة من حمص لها رأي مختلف حول شعورها بالحرية في ألمانيا، فهي مع وقف التنفيذ أحياناً: "أشعر أنّ الحرية تقتصر على الألمان. هم يمارسون الحرية في ما يريدون لكنّهم يقيدون اللاجئ بنظرات الاحتقار أو الاستغراب أو حتى السؤال عن الحجاب. هذا الحجاب في حدّ ذاته تعتقد كثيرات من الألمانيات أنّه نوع من الاضطهاد الممارس عليّ، ما يجعلني غير جديرة في نظرهم بالحرية".

ومثلها يعبّر بعض الشباب عن عدم الشعور بتلك الحرية. يقول أحد السوريين: "تصوراتي عن الحرية لم تكن كما وجدتها. اعتقدت أنّ في وسع المرء أن يفعل ما يشاء، لكنّي أشعر أنّي مراقب في كلّ تحركاتي، سواء في الشارع أو في المطعم أو في المدرسة. في الحقيقة، أشعر أنّي مقيد أكثر ممّا أشعر بالحرية".

أما عن الحرية الجنسية، فيقول محمد من برلين: "إقامة العلاقات من دون ضوابط أيضاً لم نجدها كما كنا نتخيل. الناس مشغولون طوال الوقت بالعمل. هم يعشقون العمل أكثر من أي شيء آخر، هناك مظاهر مثل التقبيل في القطارات بين المحبين كانت صادمة بالنسبة لي في بداية وجودي هنا. لكنّي مع الوقت اعتدت عليها، ولو أنّ عائلة عمي عادت إلى تركيا بذريعة عدم قدرتها على تحمل هذه المظاهر التي شعروا أنّها تخدش حياءهم وحياء أطفالهم".

من جهتها، تقول الناشطة رلى: "أمارس نشاطي بكلّ حرية. يعجبني تقبل الألمان آراءنا برحابة صدر. بتّ أتعلم منهم، كيف يمكن للمرء أن يكون متسامحاً، وأحاول أن أنظم دورات تدريبية أيضاً للسوريين كي يتعلموا هذا".

الدين والحرية
يصعب على المتزمتين دينياً أن يجدوا مكاناً لهم في ظل مجتمع منفتح وحرّ كما الألماني. يقول ربيع الذي لا يتجاوز 20 عاماً، ويعيش في ينا: "السوريون عادوا إلى التجمع مع بعضهم البعض في ألمانيا. وعادوا بالتالي إلى حصار بعضهم البعض في كثير من الأمور. في رمضان الماضي، تظاهر كثيرون بالصيام فقط كي يتجنبوا لوم جيرانهم أو معارفهم من السوريين.

كذلك، قد ترغب امرأة بخلع الحجاب، لكنّها لا تتمكن خوفاً من ذلك اللوم. لن يتمكن السوريون من التمتع بالحرية التي منحت لهم هنا، طالما يعيشون ضمن مجتمعات مغلقة".

وفي هذا الإطار، يقول المهندس الزراعي كروان إنّ البعض بدأ يبالغ في إظهار تديّنه فقط كي لا يقول عنه أحد إنّه خسر دينه في ألمانيا: "الخشية من محاكمة الآخر سبب أساسي في عدم القدرة على التمتع بالحرية. ومشكلة السوري مع السوري في هذا المقام أشدّ تعقيداً من مشكلة السوري مع الألماني". يفسر: "القانون الألماني يضمن الحرية الشخصية لكلّ شخص، لكنّه لا يجبره على ممارستها إذا لم يشأ. أما المجتمع السوري فيرى أنّ الكثير من الأمور التي تنطوي تحت بند الحرية، فيها انفلات وانحلال، فيرفضها".

قتيبة الريحاوي حاصل على ماجستير في الفقه الإسلامي وأصوله، ومتخصص في السياسة الشرعية من جامعة دمشق. يقيم حالياً في نورنبيرغ ويعلق: "حين يرتحل الإنسان وينتقل من مكان إلى آخر يحاول جاهداً أن يأخذ معه من أمتعته وأمواله وأشيائه المادية ما استطاع، أما ما يتعلق بقلبه الذي يتمثل فيه الاعتقاد، وعقله الذي تتمثل فيه الأفكار، وسلوكه الذي تتمثل فيه القيم والأخلاق فتبقى عالقة معه، وطريقة التعامل مع أي منها طريق شائكة تحفها المخاطر. يصبح الإنسان أمام خيارات يعتبر اتخاذ أي قرار تجاهها عسيراً عليه، وقد يأخذ مدة زمنية تطول أو تقصر. ويشكّل الدين الذي يمس الجانب القلبي والعقلي والسلوكي في الإنسان إحدى أهم هذه المشكلات التي تواجه المغترب".

يتابع أنّه في ظل مساحة الحرية التي يحظى بها المغترب في البلدان الأوربية، وفي ظل الواقع الذي يفرض عليه الاحتكاك بأصحاب ديانة كبرى كالمسيحية، تبدأ معادلة الدين لديه في صياغة جديدة، سلباً أو إيجاباً: "شعور الغربة الدينية يدفع البعض إلى التقوقع والتمحور حول ذواتهم، وفي المقابل يدفع آخرين إلى التخلي عن الدين".

المساهمون