حكايا حرج بيروت

13 مارس 2016
سحرتني حكايات حرج الصنوبر (العربي الجديد)
+ الخط -
"يا رايح صوب المنارة فتشلي عن حرش العيد، وبالعالي طير طيارة وقلي وين صار القرميد"... غرقنا في الصمت وفي صوت أحمد قعبور عندما شغّل والدي أغنية "يا رايح صوب بلادي" التي كان يحبها. رفع الصوت عاليا ورحنا ندندن ونغني.

"بابا شو هو حرج بيروت؟ ما تضحك عليّ!". ابتسم والدي ابتسامة عريضة، حتى برزت التجاعيد الرقيقة حول عينيه. "حرج بيروت يا بابا هو غابة خضراء في قلب العاصمة انطبعت صورتها القديمة في ذاكرة البيروتيين. كان هذا الحرج المتنفس الوحيد لأهالي بيروت وسط اسمنتها الخانق". كان الماضي يقفز إلى ذاكرة والدي وهو يحدّثني عن غابات الصنوبر، حتى شعرت لوهلة بأنني أشتم عبقها. كان الماضي يقفز إلى ذاكرته، كأنما الزمن قد أعاده شاباً. وكنت أستمع إليه بفرح. شعرت وكأنه يتخفف من ثقله وهو يحدثني عنها.

سحرتني حكايات حرج الصنوبر، فوجدت نفسي متلهفة إلى زيارته. في الأسبوع التالي انطلقت إلى الحرج. ما إن وصلت، حتى عبقت رائحة الصنوبر مع أمطار الصباح. تلك الرائحة ذكرتني بجدّي الذي كان يستخدم عطراً شبيهاً، يمسح به ذقنه وشاربَيه. وأنا أتمشى فيه، بدا لي شبيهاً بلوحة فنية، إلا أنه كان حقيقياً فعلاً. شيء ما فيه كان قد أثار في نفسي الفرح والشفقة في آن. نظرت إلى قلّة من الناس هناك، فشعرت بحرارتهم ونبضاتهم. كان الجميع، وأنا ضمناً، منفصلاً عن واقعه. كأنه لم يعد يعني أحداً ما يحدث خارج هذه البقعة. من مات، ومن ولد، ومن تنحى، ومن أصبح مشهوراً.

على أحد المقاعد، كان يجلس سبعيني. راقبته بصمت. رأيته يحدق بعيداً. "لا بد من أنه يتحسر على زمن كان يقصد فيه هذا الحرج مصطحباً أولاده ليلعبوا ويمرحوا في أرجائه". على مقربة منه، كانت امرأة تثرثر بصوت مرتفع. صوتها كان مزعجاً بعض الشيء. "لا بد من أنها إما صحافية أو ناشطة في المجتمع المدني". كانت تتحدث عن إجراءات البلدية. على الرغم من أنه كان علي الاهتمام بما تقول، إلا أنني فضلت مراقبة الأطفال. كانوا يسرحون ويمرحون، وضحكاتهم ترن في أذني.

تحت شجرة صنوبر، كان أب يلاعب ابنه الصغير. صنوبرات هذا الحرج أصبحت شاهدة على خطوات هذا الطفل الأولى. وأنا أنظر إليهما، شعرت في رغبة ملحة في البكاء. قبالتي، عاشقان. كل منهما يهمس للآخر. الهواء المنعش أضفى جواً رومانسياً على الجلسة. الشابة تنظر إليه بحب، وهو بدا مرتاحاً. لا بد من أنه يقول في سره "هواء منعش ورائحة صنوبر، بلا ما إدفع ولا ليرة". ابتسمت للفكرة وتركت مقعدي. لم يكن ثمة مكان لي هنا. وبينما أنا أمشي، صادفت رجلاً يحتسي فنجان قهوة ويقرأ كتاباً. لا بد من أنه قد أمضى نهاره كله هنا. شيء ما في وجهه كان يوحي بأنه ذاق البؤس بألوانه.

اقرأ أيضاً: مشاعر لا تشيخ
دلالات
المساهمون