كيف وقعت دول في شباك صندوق النقد الدولي؟

29 ابريل 2020
مقر صندوق النقد الدولي (getty)
+ الخط -

هاجم فيروس كورونا أغلب القطاعات الاقتصادية، وسبب خرقاً في التوازن بين العرض والطلب ووضع الاقتصادات على حافة ركود. تذكرنا هذه الأيام بالعام 2009 عقب دخول العالم بركود اقتصادي جراء أزمة الرهن العقاري، وكانت النظرية الكينزية المحرك الرئيسي للسياسات الاقتصادية الأميركية في تلك الآونة ودول أخرى حول العالم لانتشال الاقتصاد من الركود.

بالفعل، لم تتأخر الحكومات لسماع توصية كينز للخروج من الأزمة الحالية، فسارعت للإعلان عن حزم مالية واسعة الطيف ذات بعد مالي ونقدي واجتماعي للحد من خسائر الشركات والمؤسسات التي تسجل يومياً خسائر بسبب توقف أعمالها وللوقوف بجانب ملايين العمال الذين فقدوا أعمالهم ولمساعدة المحتاجين. أمام هذا الواقع الاستثنائي، لا مناص للحكومة إلا الاقتراض أو التمويل بالعجز.

لكن قدرة الدول في تمويل الحزمة المالية بالعجز تتباين بحسب حجم اقتصادها وملاءتها المالية، ولأن الشيطان يكمن في التفاصيل، فإن هناك خطراً يُحدق بالدول التي ستقرر التوجه للاقتراض من صندوق النقد أو البنك الدوليين.

أثر الفيروس على معادلة الطلب الكلي عبر منع الناس من الذهاب للتسوق والإنفاق على شراء السلع والخدمات، وضرب قطاع النقل بين البلدان من جهة وبين المحافظات في البلد الواحد من جهة أخرى.

تراجع حركة الإنتاج دعا الشركات لتسريح العمال والوقوع في فخ الركود، وصارت الحكومات أمام أسوأ أزمة عالمية منذ الحرب العالمية الثانية كما أشارت منظمة العمل الدولية وحذرت من أن الأزمة ستخفض ساعات العمال عالمياً في الفصل الثاني من 2020 بنسبة 6.7% ما يوازي 195 مليون عامل بدوام كامل.
جاء كينز ليقول للحكومة إنه لا بد من إيجاد توازن اقتصادي، بسحب البساط من قوى السوق وتولي الحكومة توجيه دفة القيادة في تنشيط الطلب الكلي بإقامة المشاريع وتوظيف العمال وجعل تكلفة إقراض المال رخيصة ومساعدة المستثمرين بخفض الضرائب والرسوم ومساعدة الفقراء والمحتاجين بالإعانات الاجتماعية.

طبقت دول عديدة حول العالم تلك التوصية عبر حزم مالية لمساعدة الأسواق على البقاء عند مستوى أقل من التشغيل الكامل، لإحداث توازن ما بين العرض والطلب. دولة مثل الولايات المتحدة أقرت أضخم حزمة مالية في تاريخ البلاد لمساعدة الأفراد والشركات في مواجهة التباطؤ الاقتصادي بقيمة 2.2 تريليون دولار.

وأقرت اليابان أكبر حزمة مالية في تاريخها بقيمة 108 تريليونات ين (990 مليار دولار) تشمل معونات نقدية للأسر والشركات الصغيرة وتأجيل دفع الضرائب. وكشفت بريطانيا عن حزمة بقيمة 330 مليار جنيه استرليني (399 مليار دولار) لمساعدة الشركات المتضررة. وفي أوروبا، أعلن المصرف المركزي الأوروبي عن حزمة المساعدات المالية بقيمة 750 مليار يورو.

تعتمد هذه الاقتصادات في إقرار حزمها المالية على شركاتها وأفرادها الذين وضعوا الاقتصاد في مستوى متقدم من خلال الإنتاج والبحث والتطوير والمعرفة، لذا من الطبيعي أن يكون حجم الحزم المالية كبيراً جداً بما يتناسب وحجم الاقتصاد وحجم مساهمة الشركات والأفراد بإنتاج قيمة مضافة تتوفر في الأسواق المحلية والتصديرية.

ولتوفير المبالغ المالية تعمد الحكومة إلى طريقة التمويل بالعجز بدون أدنى مخاوف على عملتها أو اقتصادها من الانهيار وبدون أخذ اعتبار من ارتفاع الدين العام، فالإنتاج والقيمة يقفان سنداً قوياً للحؤول دون ذلك.
في اليابان مثلاً، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي نحو 5 تريليونات دولار، ولدى ذكر اليابان تتبادر للذهن قبل عملتها، سيارات هوندا، تويوتا، نيسان ومازدا، وسوني للإلكترونيات وشركات الانيمي التي يشاهد أطفالنا أفلامها الكرتونية، ومئات الشركات الكبيرة التي نحتفظ بأحد منتجاتها في منازلنا، وتنتشر في اليابان أكثر من 3.8 ملايين شركة صغيرة ومتوسطة تساهم بنحو 52% من قيمة الإنتاج الصناعي في البلاد.

تعد القاعدة الإنتاجية إذن الوسيلة التي ستعتمد عليها تلك الدول في طباعة الأموال لحماية اقتصادها من الركود أو بالأحرى لتطبيق توصية كينز، وينطبق هذا على دول كثيرة حول العالم لديها عجلة إنتاج متنوع.

لكن، أين يكمن تطبيق توصية كينز في دول تعاني من اختلالات هيكلية في الإنتاج وفي مواردها الاقتصادية الداخلية (الادخار والاستثمار) والخارجية (الصادرات والواردات) وفي الموازنة العامة (الإيرادات والنفقات)، ومع دول تعتمد في موازناتها على إيرادات الموارد الطبيعية والديون؟

من كينز إلى ستيغليتز

تكمن قدرة الدول التي تمتلك موارد طبيعية من نفط وغاز ومعادن، في تطبيق مقترح كينز عبر أداتين: الأولى السحب من المدخرات الوطنية والصناديق السيادية والأجيال القادمة والتقشف.

والأداة الثانية: الاقتراض من الأسواق والمؤسسات الأجنبية بضمان الموارد الطبيعية. أما التمويل بالعجز فهو مستبعد مع هذه الدول، إذ من شأنه أن يتسبب في تهاوي الاقتصاد بدل إنقاذه.
سيقف كينز حائراً هنا أمام هذه الدول التي يعاني كثيرٌ منها أزمات مالية وليست لديها قاعدة إنتاجية متنوعة وتعتمد في إيراداتها على الموارد الطبيعية والمعادن والديون والهبات، وتنفق على الإنفاق الجاري أكثر مما تنفقه على الاستثمار.

ولأن الأداة الأولى تعد استنزافاً للمدخرات غير محسوب العواقب، ستحذو معظم الدول الأداة الثانية وهي الاقتراض ورفع سقف الدين العام، من الأسواق المحلية والعالمية عبر بيع سندات خزانة، أو الاقتراض من صناديق دولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين وهنا يكمن الخطر.

وقد أعلن صندوق النقد الدولي بالفعل أنه ضاعف موارده للإقراض الطارئ في إطار أدوات عدة هي التسهيل الائتماني السريع "RCF" وأداة التمويل السريع "RFI" ومنح تخفيف الديون الممولة من صندوق احتواء وتخفيف الكوارث "CCRT".

وبحسب مديرة الصندوق كريستالينا جورجيفا، فإن 80 دولة طلبت مساعدات مالية بينها 12 دولة من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وإن الصندوق مستعد لاستخدام كامل طاقته الإقراضية البالغة تريليون دولار. وتم تقديم 750 مليون دولار لتونس و3 مليارات دولار للمغرب، وقدم الصندوق لمدغشقر 122.2 مليون وحدة سحب خاصة، وقرضاً للغابون بقيمة 108 ملايين وحدة و80 مليون وحدة لرواندا.

كثير من تلك الدول سحب على عجل قروضاً من صندوق النقد لصرفها على قطاع الصحة من مستلزمات وأجهزة ومعدات طبية، والإعانات الاجتماعية وتعويض الشركات والاستثمارات التي تكبدت خسائر كبيرة جراء وباء كورونا، وسيكون عليها إعادة أصل القرض والفائدة بعد انتهاء الأزمة، وهو ما قد يوقعها في أزمة مركبة؛ الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها أساساً ومن ثم جاءت أزمة وباء كورونا لتزيد من إيقاع الأزمة.

وبهذا أضاف الصندوق لجعبته عشرات الدول، وعلى مبعوثيه تجهيز لائحة الشروط والإجراءات للبدء في "لبرلة" اقتصاداتها وفتح حدودها وأسواقها المالية والنقدية للدول الأكثر تقدماً.
إملاءات وسياسات لا تبتعد عن التدخل في القرارات الاقتصادية واستقلال الدول وربما تأتي على السيادة الوطنية، من تحرير للأسعار والسلع والخدمات المدعومة. وهو سبب وجيه جعل دولاً تبتعد عن الاستعانة بالصندوق من بين الخيارات التمويلية التي تبحث عنها للحد من آثار أزمة كورونا، كما أشارت إلى ذلك تركيا التي رفضت التوجه للصندوق واتجهت لعقد محادثات مع الولايات المتحدة للحصول على خط ائتماني إضافة لخيارات تمويل أخرى.

لم تثبت برامج صندوق النقد الدولي أي كفاءة عالية في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها الدول والشعوب المحتاجة للعون، لا في الأردن ولا في تونس ولا العراق ولا مصر، لا دول عربية ولا أجنبية.

آثار تطبيق إجراءات الصندوق على الدول تظهر مباشرة عبر تهاوي العملة وهبوط الوضع الاقتصادي والموازنة العامة وارتفاع في المديونية والعجز والتضخم والفقر والبطالة.

لست ضد الاقتراض، ولكن لا أجد مبرراً لاقتراض دولة متأزمة أصلاً وستخرج منهكة بعد أزمة كورونا، من مؤسسة مثل صندوق النقد أو البنك الدوليَين، لا تعير أي اهتمام للمقدمات وتهيئة الظروف الملائمة قبل الدخول وإغراقها بسياسات العولمة والتحرر بما لا يتناسب مع ظروف بيئتها الاقتصادية. مؤسسة تستغل الأزمات المالية، وتملي إملاءات مقابل الديون.

مؤسسة استنتجت كبيرة اقتصاديي البنك الدولي بيني غولدبيرغ، أن الأموال الممنوحة لتلك الدول لأغراض تنموية يستولي النافذون فيها على قسم من المبالغ ويحولونها إلى حسابات في الخارج، ما يعني عدم امتلاك البنك لآلية مراقبة على الأموال التي تنفقها في البلدان المعنية.

الاقتراض من صندوق النقد الدولي لا يصلح لهذه الدول، ولا توصية كينز أيضاً الذي ينقلنا إلى الاقتصادي جوزيف ستيغليتز الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد في 2001 الذي أشار إلى أن اعتماد الاقتصاد على إيرادات الموارد الطبيعية، وأزيد على الديون والهبات، يخلق أوطاناً غنية ومواطنين فقراء. حقيقة تختبرها هذه البلدان وستختبرها أكثر بعد انتهاء الفيروس حيث ستبدأ الأزمة الحقيقية.
المساهمون