خيارات بريطانيا المُرة لتقليص خسائر زلزال الاستفتاء

27 يونيو 2016
شباب لندن غاضبون من نتيجة الاستفتاء (Getty)
+ الخط -
لقد كان السؤال الذي طرحته "العربي الجديد" طوال الأسابيع الماضية، ماذا لو صوتت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. الآن وقد صوتت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي.. ما هي الخيارات المتاحة أمامها لبناء فضاء اقتصادي وتجاري جديد؟
الإجابة على هذا السؤال تبدو صعبة إلى حد ما، وسط الانقسام السياسي واحتمالات الاستفتاءات المطروحة في كل من اسكتلندا وإيرلندا، كما أن الطريق ليس معبداً لبناء تحالفات تجارية جديدة لاستمرارية الرخاء الاقتصادي، ولكنه بالتأكيد ليس مستحيلاً أمام هذه الجزيرة الصغيرة المساحة الكبيرة الإمكانيات من حيث الكفاءات البشرية والعلاقات التاريخية والتجارية الممتدة في أنحاء العالم.
أولى هذه التحديات أمام بريطانيا هي توحيد الجبهة الداخلية وتأمين قيادة سياسية جديدة تدير دفة الحكم بحكمة تجمع شتات الانقسام داخل الأحزاب السياسية، وداخل الأقاليم التي تصنع المملكة المتحدة وتجمع لحمة سداها مع المركز.
فالتعامل مع هذا التحدي، كما يرى العديد من الخبراء أنه سيشكل البداية لتقليل الخسائر واحتواء العوامل السالبة لهذا التصويت المجحف في حق الاجيال الشابة.
ولاحظت "العربي الجديد" أن الاستفتاء على بقاء بريطانيا أو خروجها من النادي الأوروبي حدث في ظروف استثنائية سيطرت عليه عوامل هامشية، مثل الضعف الاقتصادي الذي تعاني منه الكتلة الأوروبية وتدفق المهاجرين الذي رفع العداء للأجانب، وصيحات العنصرية التي علت وغطت على صوت العقل مدفوعة بصعود التيار اليميني المتطرف، وكبار السن من أجيال الحرب العالمية الثانية التي تنظر بمنظار "عظمة الإمبراطورية البريطانية" وتجاهلت ما حدث في العالم من متغيرات. وهو ما أدى إلى انقسام بريطانيا إلى معسكرين، المعسكر المستنير الذي يتشكل من الأجيال الشابة من خريجي الجامعات وذوي الكفاءات المهنية الذين استفادوا من الفضاء الاقتصادي الأوروبي في لندن والمراكز التجارية الأخرى.
والمعسكر الثاني الذي يقوده كبار السن (فوق 55 عاماً) من أهل الريف البريطاني والمواطنين الذين لم يكملوا تعليمهم الجامعي وعثر بهم الحظ، فلم يستفيدوا من الفضاء الاقتصادي الأوروبي في تحسين مستويات دخلهم. وبالتالي نظروا إلى عضوية بريطانيا في النادي الأوروبي، على أساس أنها عبء مالي عليهم، حيث فتح الباب أمام الهجرة الأوروبية التي نافستهم على مزايا دولة الرفاه الاجتماعي، وارتأوا أن المهاجرين الأوروبيين، خاصة من دول الاتحاد الأوروبي الفقيرة، أخذوا منهم السكن الرخيص المدعوم ونافسوهم على التعليم المجاني والخدمات الصحية.
وبالتالي نظروا بمنظار ضيق إلى عضوية بريطانيا في منظومة الاتحاد الأوروبي، تجاهل المكاسب الكبرى التي تحققت لبريطانيا من العضوية الأوروبية. وبالتالي صوتوا لإغلاق الباب أمام الهجرة، تحت حجج الحفاظ على الهوية والثقافة البريطانية.


ولكن على أية حال وبغض النظر عن الخلفيات التي جعلت بريطانيا تصوت لصالح عزل نفسها عن الفضاء الاقتصادي والتجاري والاجتماعي الأوروبي وتقفز متخطية الحسابات المنطقية في ظلام المجهول، يبقى أمام بريطانيا الآن التعامل مع واقع جديد تماماً وله تداعيات سالبة على مستقبلها الاقتصادي والتجاري وعلى دولة الرفاه نفسها.
الآن وقد اختارت بريطانيا الخروج كيف يمكنها مواجهة التحديات التي يفرضها هذا القرار.
هنالك الكثير من التحديات وقليل من الإجابات لهذه التحديات منذ ظهور نتيجة الاستفتاء يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أولاً: كيفية محاصرة اضطراب الاسترليني وتأثيراته الضارة على التجارة والاحتياطي الأجنبي البريطاني.
ثانياً: كيفية بناء علاقات تجارية جديدة مع أوروبا تسمح للشركات المالية في حي المال البريطاني المتاجرة مع أوروبا دون عوائق. وإنشاء ترتيبات تجارية شاملة للحفاظ على انسياب التجارة والخدمات بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي.
ثالثاً: بناء فضاء تجاري جديد مع الدول والكتل الاقتصادية خارج الاتحاد الأوروبي.
بالنسبة لاضطراب سعر صرف العملة البريطانية، الذي يعد أحد التداعيات العاجلة. يلاحظ مراقبون بحي لندن المالي أن الاسترليني هبط في تعاملات يوم الجمعة التي تلت التصويت من قرابة 1.50 إلى 1.32 دولار، قبل أن يعود للتماسك مرتفعاً. ولكن من غير المعروف كيف ستكون معركة المضاربة على الاسترليني حينما تفتح الأسواق العالمية اليوم الاثنين.

ويعد اضطراب العملة لأي بلد تحد حقيقي للأعمال التجارية والمصارف وشركات توظيف الأموال وتدفق الاستثمارات. وبالتالي سيظل الاسترليني الصداع الدائم بالنسبة للاقتصاد البريطاني خلال الشهور المقبلة.
أما بخصوص بناء علاقات تجارية جديدة مع دول الاتحاد الأوروبي بعد طلاق الاستفتاء، يلاحظ مراقبون أن بريطانيا لم تستخدم حتى الآن المادة خمسين من دستور الاتحاد الأوروبي، التي نصت على إمكانية انسحاب أي بلد عضو من الاتحاد الأوروبي بناء على طلبه. وفي أعقاب التعامل مع قضية خروج بريطانيا، يمكن للحكومة البريطانية مناقشة شراكة مع الاتحاد الاوروبي وتختار من بين نموذجين قائمين حالياً، وهما النموذج السويسري أو النموذج النرويجي. وكلا النموذجين من الشراكة التجارية يسمحان بتدفق السلع والخدمات مع دول الاتحاد الاوروبي دون عوائق.
وتلاحظ "العربي الجديد" أن سويسرا والنرويج، لا تتمتعان بعضوية الاتحاد الأوروبي ولكنهما تتمتعان بكل ميزات الروابط الاقتصادية والتجارية، وبالتالي فلا يعني خروج بريطانيا من عضوية الكتلة الأوروبية الطلاق البائن، أو أن بريطانيا ستفقد تجارتها مع دول الاتحاد الأوروبي، التي تمثل حالياً نسبة 50% من تجارتها الخارجية.
وحسب القانون الأوروبي، فإن أولى الخطوات التي يجب أن يتخذها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، هي إخطار المجلس الأوروبي لتبدأ مرحلة من المفاوضات بين أعضاء الاتحاد على كيفية التعامل مع بريطانيا بعد الانفصال.
وتلي هذه الخطوة موافقة زعماء الاتحاد الأوروبي وأعضاء البرلمان الأوروبي على البروتوكول، الذي سيتم التعامل به مستقبلًا مع بريطانيا، الأمر الذي قد يحتاج إلى تصديق من قبل برلمانات الدول الأعضاء.
أما بالنسبة للنقطة الثالثة والخاصة ببناء علاقات تجارية خارج دول الاتحاد الأوروبي، فيمكن لبريطانيا أن تستخدم قوانين منظمة التجارة العالمية في علاقاتها التجارية.
يضاف إلى ذلك أنه يمكنها إنشاء علاقات تجارية خاصة مع الصين وكتلة دول مجلس التعاون الخليجي التي تربطها معها علاقات جيدة. ولكن يلاحظ أن العلاقات الخاصة مع أميركا ستتأثر، لأن أميركا ستجد نفسها مضطرة للتعامل السياسي والاقتصادي مع باريس وبون أكثر من تعاملها مع بريطانيا.
ويذكر أن البيت الأبيض قد أعلن يوم الجمعة أن الرئيس باراك أوباما يتمسك بتعهده بأن تأتي بريطانيا في مؤخرة الصف عندما يتعلق الأمر باتفاقيات تجارية مع الولايات المتحدة إذا انسحبت من الاتحاد الأوروبي.
ومثل هذا التعهد سيؤثر كثيراً على حجم التبادل التجاري والاستثماري بين أميركا وبريطانيا، خاصة وأن أميركا تعد ثاني أكبر شريك تجاري لبريطانيا بعد أوروبا.